ما بعد التراجيديا في مولد (الميتامسرح)

مجلة الفنون المسرحية


حاتم محمودي


لا شكّ في أنّ الإنسانية باتت -الآن- تقف على شفا جرف هار، وخاصّة بعد انهيار قيمها المطلقة والثابتة، منذ الجراحات الفلسفية صاحبة التأبين الميتافيزيقي للإله، مع “نيتشه”، وأفول النزعة الإنسانية مع “ميشال فوكو”، ومنذ الخلخلة العلمية المتمثلة فيما هو بيولوجي مع “داروين”، ونفسي مع “فرويد”، وفلكي مع “كوبرنيك”، ومنذ إعلان “البارتيّة” موت المؤلّف بتحقق البنيوية؛ ردّا على المناهج القديمة والكلاسيكية والإطاحة بالظاهراتية.
لقد تمّ تقويض كل التصورات التي حافظت لعصور على ذلك الزمن المجرّد المتعالي والثابت؛ منذ التركة الأرسطية، أو ما أطلق عليهم نيتشه “فلاسفة الانحطاط”، بوصفهم قتلة “ديونيزوس”؛ حتى أنه منذ ستينيات القرن الماضي، كان مع المفكّر والباحث الأميركي “أبيل” حديث عن “الميتامسرح”، كوريث شرعي للتراجيديا، ومن بعده النقد الفرنسي مع “مانفراد شميلنغ”، وبدرجة أقلّ “باتريس بافيس”.
تجدر بنا الإشارة إلى تحوّلات هذا المفهوم، فهو وإن كان رؤية فلسفية للعالم -وفق النقد الأميركي- فقد عُدّ ضربًا من ضروب التأريخ لسيرورة الفعل الأدبي داخل الفعل المسرحي عند الفرنسيين، وهو إن أطاح بالتراجيديا، فلأنّ مرتكزاته العلمية والفلسفية التي قوّضت ما هو ثابت ومطلق، قد أطاحت -بدورها- القيم الثابتة التي قامت عليها الأولى؛ ما يخوّله تصدّر الرّهان الحداثي -برمّته- على المستوى الفنّي، ولكن ثمّة ما يعتلي بالسؤال، فتلك المرتكزات كانت -في أوّلها- تجذيرًا وتأصيلًا للحداثة التي أعلنت فشلها، بعد استبدالها ما هو لاهوتي بصنم جديد هو العقل، وبعد فراغ المقوّم الحضاري الحاليّ من كلّ ما هو روحي وطقسي.

إنّ الإطاحة بالتراجيديا، مثّل فراغًا قويًّا وجراحات كبيرة، حملت المسرح؛ ليكون على وعي بأزماته، لكن يبدو أن “الميتامسرح” هو الآخر، وبوصفه نقدًا وتجاوزًا للراهن، ظلّ حبيس القراءات السطحية، منذ أن تمّ اختزاله -مع البنيويين- في النصوص المسرحية لا أكثر، ومنذ أن تمّ الإقرار باستبعاده من الأشكال “الفرجوية”، وهو اختزال يجعلنا نذهب إلى تقويضه بدوره. فقتل المؤلّف -بنيويًا- لا يزيح النصّ المسرحي بشكل نهائي، إنّما يخلق مركزية مضادّة، هي مركزية اللغة، وهو ما من شأنه أن يحافظ على القوالب الجمالية السائدة، مهما كان تفجير الوحدات الثلاث الأرسطية، أمرًا مهمًا.

يبدو لنا جليّا أن أزمة المسرح المعاصر كانت نتيجة التحوّل من الثابت إلى المتغيّر، وهي نتيجة ضرورية وحتمية إذا ما اتبعنا إرهاصات الحداثة وتمثّلاتها، ما دفع بالمسرح إلى البحث عن أشكال درامية جديدة عوض تلك السائدة أو القديمة، ولعل ما ذهب إليه “ليفي شترواس”، برفعه البنيوية إلى الحقول الأنثروبولوجية، هو ما سيفصح -نظريًّا- عن تلك العودة إلى البدائية من الأساطير والأشكال “الفرجوية”، وما هو طقسي وتعازيم ونذور؛ أي أنّنا إزاء نظرة إلى الحياة، بوصفها مسرحًا سلفًا، تمسرح بدورها “الآن” فنّيًا.

ثمّة جانب مهمّ، وجبت الإشارة إليه؛ فالعودة إلى الأصول تلك، خلقت -اليوم- ما يُطلَق عليه مسرح المثاقفة الآخر، بغية حلّه لمآزق مسرحه، لم يتعامل مع الطقوس الاحتفالية للشعوب والحضارات الأخرى، بهدف تناسج الأسيقة الثقافية؛ إنّما من موقع استثمارها لصالحه، وهو أمر يتعارض وعلّة “الميتامسرح” خاصّة؛ إنه يقوم على التناصّ/ تفاعل الفرجات، وعلى التجويف/ الفرجة داخل الفرجة، لا على الانتحال أو الاستثمار.

وللمحافظة على الرهان القديم/ السائد، ظلّت العديد من الدراسات -في قراءتها لمسرح ما بعد الدراما- مجرّد فؤوس تحاول شرخ أو جرح الصنم الجمالي الموروث منذ العهود الأثينية، وذلك بإقامتها حيّز القالب الجمالي دون حفرٍ “أنثروبولوجي”، من شأنه أن يعطينا تصورات جديدة عن مفهوم المسرح؛ لذلك، لم تبرح قاعات العرض، بل حاولت تغييرها، ولم تخن ما هو تقني؛ كالإضاءة والسينوغرافيا، إنما غيّرت في آلياتها، ولم تقوّض النصوص بل قوّضت سلطتها، أي: أنها مجرّد امتداد جدلي (ديالكتيكي) للماضي، ولم تحقق غير علاقة جديدة مع المتلقي، بعد تحرّرها من الإيهام، وتشغيلها للبعد التساؤلي عند المتلقي، وإمكانياته الإدراكية.

قد يعترض علينا مبحث آخر؛ ليقوّض ما ذهبنا إليه، ولكن الوعي بحجم المغالطات التاريخية الأولى، التي جعلت من المسرح رهان المركزية الثقافية، والتي صُدّرت إلى شعوب أخرى من الإغريق، وظلت سائدة، وهو ما يحملنا على تقويض وتفكيك مسرح المثاقفة من جهة، ومسرح ما بعد الدراما من جهة ثانية، ذلك أنّهما امتداد لتلك المركزية وليس هدمًا ونسفًا لها، بشكل كلّي، وأنّ ردم ذلك يبقى محفوفًا بقدرة وريث التراجيديا وتشغيله بالبحث في الأشكال الفرجوية -ما قبل مسرحية- بمناهج حديثة تتعالق هي الأخرى بدورها، وفقا للرؤية التي ذكرناها سلفًا مع ليفي شترواس.

مثلما تتحقق الأساطير وتتوالد لغويا (البنيوية) تتوالد أيضًا من أساطير أخرى (أنثروبولوجيا)، وبهذا الشكل نكون قد خرجنا من المأزق البنيوي، كما لو أنّنا نفتح نهجًا للاشتغال بـ “الميتامسرح” -في الأشكال الطقسية والاحتفالات والفرجات- خارج نطاق السيطرة الكولونيالية؛ بوصفها وجهًا من وجوه الحداثة المخاتلة.

----------------------------------------------
المصدر : جيرون 

إرسال تعليق

0 تعليقات

جميع حقوق النشر محفوظة لمجلة الأضواء المسرحية 2016

موقع الفنان والكاتب المسرحي محسن النصار

الاتصال بهيئة التحرير

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

زيارة مجلة الفنون المسرحية على الفيسبوك

زيارة مجلة  الفنون المسرحية على الفيسبوك
مجلة الفنون المسرحية على الفيسبوك

المشاركة على المواقع الأجتماعية

الأخبار المسرحية

الترجمة Translate

المشاركة في المواقع الأجتماعية

من مواضيعنا المتميزة