مجلة الفنون المسرحية
صميم حسب الله
"حلم الغفيلة" لم ينضج بعد!
أفرزت الفلسفة النسوية تيارات فكرية وثقافية تبحث في مفهوم الجنس/النوع الإجتماعي أو (الجندر) الذي يكشف عن علاقات القوة بين (الذكر والأنثى) ، على نحو متساوٍ ، فإذا كانت مفاهيم الهيمنة الذكورية تبحث في مفهوم (superman ) فإن طروحات الحركة النسوية جاءت للتعبيرعن مفهوم محايث يسهم في إنتاج (superwoman ) ،وقد إتخذت الحركة النسوية مسارات متنوعة يأتي المسرح النسوي في طليعتها، بوصفه نوعاً مسرحياً يبحث في قضايا المرأة وحقوقها في العمل والتعليم على نحو لايختلف عن حقوق الرجل ، من جهة أخرى فإن المسرح النسوي ارتبط على نحو غير مباشر بطروحات ثورة الطلاب عام 1968 في فرنسا التي كانت تبحث في الحريات وحقوق المرأة والأقليات وغيرها .
إن فرضيات الإشتغال على مفاهيم المسرح النسوي لا تبدو معزولة عن التقنيات التي يشتمل عليها مفهوم العرض المسرحي ، ذلك أن ماذهب إليه المسرح النسوي معني على نحو خاص بإنتاج تحولات في المضامين تكون مغايرة عن المعطى الذكوري ، أما الأشكال البصرية الدالة فإنها لم تزل مشتركة الأمر الذي لايمكن معه الكشف عن شكل تعبيري مغاير من دون الركون إلى فرضيات مغايرة سواء على مستوى إنتاج بنية نصية ، او توظيف الفضاء المسرحي ، وجماليات الاداء التمثيلي ، بمعنى ان التعاطي مع مضامين المسرح النسوي وطروحاته الفكرية يحتاج إلى بنية بصرية وجمالية تسهم في تفعيل تلك المضامين ، وهو أمر لم يتوافر في العرض المسرحي (حلم الغفيلة) تأليف وإخراج وتمثيل (ليلى محمد) ويشاركها في التمثيل ( محمد هاشم، محمود رجب ،وليد غازي فرمان)، درامتورج( د.يوسف رشيد) ، سينوغرافيا( عصام جواد) ، والذي عرض مؤخرا على خشبة المسرح الوطني في بغداد.
امتلكت نصوص المخرج المؤلف خصوصية مغايرة عن تلك النصوص الادبية التي يدونها المؤلف المسرحي، ويعود ذلك إلى قدرة المخرج المؤلف على اختزال التوصيفات الأدبية والعمل على تحويلها إلى مقترحات إخراجية تسهم في إنتاج مايعرف بـ (نص العرض) ويعود ذلك إلى امتلاك المخرج خبرة التعاطي مع البنية النصية ، ابتداءً من الفكرة وليس انتهاءً بالصراع الدرامي والشخصيات المسرحية ، وهي عناصر لم تبدو حاضرة في مسرحية (حلم الغفيلة ) ، وابتداءً من عنوان العرض الذي كشف عن مزاوجة دلالية بين معنى معلوم يتمثل بما تشير إليه (الغفيلة) في إحالة إلى نوع من انواع الصلاة التي يراد بها طلب المغفرة والأمنيات والحاجات من رب العالمين، إلى معنى مجهول ارتبط بالحلم الذي له دلالة ولا حدود له، فضلا عن غموض العنوان وعدم توافره على دلالات واضحة داخل العرض فإن المتن النصي ظل يدور في فلك اللحظة الأولى التي تكشفت عن علاقة بين ذكر وأنثى ، في محاولة لبناء درامي بدا مرتبكاً سيطر السرد عليه من دون أن تمتلك المخرجة والمؤلفة القدرة على تحويل السرد/ الوصف إلى فعل درامي ، ويعود ذلك إلى عدم رغبة المؤلفة في تهشيم البنية الدرامية لصالح بنية العرض المسرحي، الأمر الذي جعل من النص الأدبي مجرداً ومعزولاً عن فضاء العرض وغير قادر على إنتاج دلالات فاعلة تحيل المتلقي إلى مضامين المسرح النسوي الفكرية في صراعها مع الآخر/الذكر ، بل على العكس من ذلك فإن مقترحات المؤلفة دفعت بالنص نحو الرتابة ، والهذيان وصولاً إلى شخصية نسوية فاقدة للذاكرة ، لاتعرف من يكون الآخر الذي يشاطرها نصف السرير في لعبة تعتمد على نحو أساس على اللغة الملفوظة المباشرة التي لاتكشف عن معنى مضمر بقدر ماتكشف عن حوار وظيفي يسهم في تعزيز المنطوق السردي الذي يعتمد التكرار في الكثير من مفرداته اللغوية ( حذارِ ، حذارِ ، حذارِ ، أن تقتربي من نصفي) من دون أن يكون لذلك التكرار فعل دال على معنى حتى في اللحظة الأخيرة التي أرادت المؤلفة عبرها التاكيد على فعل التكرار بما يمنحها فرضية التلاقي مع مقترحات مسرح اللامعقول بالعودة إلى اللحظة الأولى ، إلا أنها اعتمدت على تهشيم تلك اللحظة عن طريق تبادل الملفوظ بين الشخصيتين (الذكر والانثى) من دون ان يكون لذلك اشتراط معرفي أو دلالي الأمر الذي بدا معه ذلك التغيير لحظة من لحظات الارتجال غير المنتج للمعنى.
وقد بدا واضحاً أن المؤلفة تنبهت في موضع آخر من العرض إلى حالة التيه التي سيطرت على النص، الأمر الذي دفع بها إلى إنتاج مضامين تعنى بالقضايا النسوية (الإنجاب ، المرأة البور) أو (الذكر المشوّه) من دون ان نجد مايبرر ذلك داخل المتن النصي ومرجعياته المعرفية .
وقد بدا ان النص الدرامي لم يخضع لمقترحات الدراماتورج الذي بدا حضوره غير فاعل في حلم الغفيلة ، ويعود ذلك على نحو أساس إلى اعتماد المخرجة المؤلفة على صياغة مدونة نصية لاتتفاعل فيها مع العمل التشاركي الذي يمكن للدراماتورج ان يسهم في تطويرها، وعلى الرغم من ان حضور الدراماتورج في تجارب المخرج المؤلف يعد ضرورة فكرية وجمالية بما يمتلك من خبرة تسهم في إعادة إنتاج النص السردي وتحويله إلى نص/عرض إلا ان الهيمنة النسوية التي أنتجت النص والعرض حالت دون تحقيق ذلك من دون ان تدرك ان حضور الدراماتورج لاينتقص من الفعل الإبداعي للمخرج المؤلف بل على العكس يسهم في تحقيق الفرضيات الفكرية والجمالية ، لاسيما وأن المؤلفة اختارت أن تكون مخرجة وممثلة في الوقت نفسه، من دون ان تدرك أن حضورها في تاسيس الفعل الإخراجي مغاير تماماً عن تدوين النص وتجسيده ، الأمر الذي بدت فيه عازمة على تحقيق مضامين الفلسفة النسوية في إنتاج (superwoman) من دون ان تدرك أهمية التفاعل مع دراماتورج العرض.
ولم يكن التيه النصي بمعزل عن عملية تطبيقه على خشبة المسرح تحت مسمى الرؤية الإخراجية التي بدا حضورها تأكيداً على ماتوافر في النص من ضعف في بنائه الدرامي وشخصياته و مضمونه الفكري، إذ اعتمدت المؤلفة على تطبيق ماتوافر في مخيلتها في لحظة التدوين النصي من دون ان تدرك ان الفعل الإخراجي يعتمد على عناصر سمعية وبصرية مختلفة ،ياتي في مقدمتها توظيف المكان المسرحي ، فاختارت الركون إلى تجسيد حلم الغفيلة عن طريق قطعة كبيرة من القماش الشفاف تم تصميمها على نحو دائري تمركزت في وسط المسرح تتشارك فيها الانثى مع الذكر، لندرك فيما بعد أن الأنثى /المراة متقاطعة مع الرجل/الذكر وهما في مخدع النوم/الحلم ، إذ كشفت المخرجة عن فعل التقاطع عن طريق اللغة الحوارية التي بدت معها المرأة مستلبة الحقوق ، وبدا معها الرجل مهيمناً على المرأة مستفيداً من الملفوظ النصي ، إلا ان ذلك التقاطع جاء مغايراً لعلامة الزّي المسرحي التي جاءت منسجمة بين الذكر والأنثى ، إذ تحيل الأزياء المتشابهة لونياً إلى حجم التوافق بين الشخصيتين ، فضلا عن عزلة المكان المتحقق بوصفه مخدعاً للنوم/الحلم.
وفي تحول لفضاء العرض نجد ان المخرجة اختارت التعاطي مع فكرة تقسيم الفضاء المسرحي إلى فضاء انثوي وآخر ذكوري عن طريق علامة لاتحتكم على مرجعيات التقسيم بما فيها من إحالات رمزية للمكان ، إذ اعتمدت توظيف شريط أبيض اللون لقطع خشبة المسرح إلى نصفين من دون ان ندرك مغزى تلك الفرضية ، كما ان دخول شخصية ترتدي ملابس بيضاء وتحمل قطعة من القماش الأسود وتتخذ من وسط المسرح مكاناً حيادياً من دون ان يكشف عن علاقاته بالشخصيات الاخرى على الرغم من الهيمنة التي كشف عنها في إحالة صريحة إلى السلطة .
ولم تكن هيمنة الملفوظ النصي بمعزل عن منظومة الاداء الصوتي (المستعارة) التي أسهمت على نحو واضح في التعبير عن الفجوة العميقة بين عملية الإخراج والتمثيل ، إذ بدا واضحاً ان المخرجة لم تكن قادرة على مراقبة الاداء الصوتي للشخصية التي جسدتها ، وبدا صوتها غير منسجم تماماً مع ماذهبت إليه في التعبير الحركي ، وياتي اداء الممثل (محمد هاشم) على نحو مختلف تماماً إذ كان متحكماً في أدائه الصوتي ومنفلتاً في ادائه الجسدي في مشاهد عدة وكانه لم يزل في قاعة التمرين ولم يدرك تحوله إلى خشبة المسرح الوطني ، ويبدو ان العرض لم يستطع التخلص من ظاهرة توظيف (المايك) الذي بدأ يغزو عروض المسرح الوطني مؤخراً ، والذي ساعد على إنتاج طبقات صوتية نشاز وغير منسجمة مع الاداء الحركي ، إذ بدا واضحا ان الممثلين في البروفات كانوا يعتمدون على قدرتهم الطبيعية في الأداء الصوتي ، ولكنهم على خشبة المسرح بدأوا باستعمال (المايك) الذي ساعدهم كثيرا على تشويه منطوقهم اللفظي ، كذلك هو الحال بالنسبة للممثل ( محمود رجب) الذي اختار نمطاً أدائياً خاصاً للتعبير عن الشخصية من دون ان يدرك أن التنويع الصوتي ضرورة جمالية تمنع الممثل من الوقوع في الرتابة ، من جهة أخرى فإن اختيار المخرجة توظيف المسرح بوصفه مخدعاً معزولاً أسهم في إنتاج اشتراطات بصرية وضعت السينوغراف في محنة التعبير البصري ، لاسيما في المشاهد داخل المخدع/الحلم ، إذ بدت فيه إضاءة الشخصيات بين الظلال التي تتوافق مع فرضية الرؤية الإخراجية وبين التشويه البصري في مواضع مختلفة من العرض ، فضلا عن اعتماد المثلث بوصفه شكلاً هندسياً يحتكم على علامات دالة لم يتم التفاعل معها سواء على مستوى (الشكل الأرضي) المتمثل بالإضاءة التي كانت على شكل مثلثات ، أو على مستوى (المنظر المسرحي) الخلفي الذي توزعت فيه المثلثات على شكل كتل هندسية صماء لم يتم التعامل معها والإفادة من دلالاتها، الأمر الذي تكشف عن حلم لم ينضج بعد!
------------------------
المصدر : جريدة المدى
0 تعليقات