المسرح وراهنه جنرالات برتبة إرهابيين

مجلة الفنون المسرحية

المسرح وراهنه جنرالات برتبة إرهابيين

حاتم محمودي

يبدو أنّ أيّام قرطاج المسرحيّة المقبلة بعد أشهر قليلة، باتت تبوح بطبيعة العلاقات القائمة بين المسرحيين، ومن خلالها يمكننا رصد الراهن الفنّي وأحواله؛ إذ لا يمكن لأيّ متتبّع للأحداث الآنيّة أن يلاحظ الخصومات التي لا يمكنها أن تحمل غير سيوف ومقاصل وسواطير مشرّعة للقتل، ولكن نادرًا ما يصرّح أحد ما بالحقيقة كاملة. هذا الذي يجري لا يُعدّ إلا نوعًا من التسابق إلى كعكة طريّة؛ ما يجعل حروب بعض أولئك المسرحيين بغيضة، كما لو أنّهم ذبابًا طواه الطوى والجوع، وسوف يصافح بعضهم بعضًا، في جفنة مليئة بمشاعر الصلح، بعد كل ما يحدث، إن تمّ إرضاء الغاضب بقليل من مسكنات، تجد منبتها في حروب السمسرة؛ كأن تتمّ برمجة عرض لهذا “الغاضب”، أو استضافته في ندوة ما، أو ربّما الاحتفاء به من باب درء إحساس الانقراض الذي يشعر به، وربّما –أيضًا- تتاح له فرصة الانتصار؛ ليحلّ محلّ الذين يهاجمهم، ثمّ تُصفّى الأحقاد من منطلق الثأر.

إن حروبًا بهذا الشكل، لا تجد منبتها إلا من حيث الرغبة في التموضع؛ إذ إنّ محرّكها الأساس هو الذّاتيّة خارج الوعي الجمعيّ، وأبعد من أن تخاض باسم رهان فنّي أو جماليّ. ما يحدث فعلًا هو ذلك التنافس التجاريّ، من حيث تسويق بعض الأعمال، سواء حملت في خراجها نواة ابداعيّة أو كانت منتحَلة حتى، أو محض خردة فنّية، وليس ثمّة من مقياس إلا نسيج من العلاقات بين تجّار الثقافة أنفسهم، سواء كانوا مديري مهرجانات أم إداريين لدى سلط الأشراف، أم من أصحاب تلك الأعمال ذاتها.

في المقابل، وعن الرّاهن المسرحيّ -ويا لوطأة هذا الانحطاط الثقافي- ثمّة دراسات نقديّة من المفترض أن تشخّص أزمات الرّاهن، تشرّحها، تفكّكها، لكنها ذهبت إلى تمجيد الأزمة، ومديح ما نراه يوميّا من مستنقعات باسم الفنّ. وهذا لا يمكن أن يندرج إلا في خانة مهزلة الأشياء، وبما أن هذه السابقة اللفظيّة تبدو أنها مجرد “لكن”، لم يعد همّها الآن غير الإشارة إلى ضرورة نقد النقد ذاته. فنقد النقد مثله مثل الإبداع؛ محض بضاعة في أسواق الرقيق الإنسانيّ، ويمكننا القول إنه ستنبت فيه “لكن” أخرى، ما دام النقّاد أنفسهم مجرّد نخّاسين يطرحون أقلامهم للبيع.

ليس ثمّة نقّاد، فطاعون أولئك التجّار كان قد أجهز عليهم، والذين أردنا التحدّث عنهم سلفًا، هم محض أشباح أو أطياف. أمّا الذين يكتبون الآن، فأغلبهم من رجال الصحافة الذين تمّ شراء أرباب عملهم، فتحوّلوا إلى مجرّد موظّفين يشبهون رجال الأمن، حيث لا يتورّعون –إطلاقًا- عن بيع ذممهم، والإدلاء بالمديح إلى أوّل من يدفع لهم من بارونات الفنّ. أمّا الذين تمّ الاجهاز عليهم، فمنهم من غادر عالم المسرح، ومنهم من صار مخبولًا، وقلّة قليلة، فقط، ما تزال تكتب بريشة ترتجف أمام هول هذا السوق.

من جهة أخرى، يعتقد بعض الفنّانين أمام شروخ الرّكح “الخشبة” -بما يحتاجه من دم وعرق- أنّه يتعيّن عليهم تجويع الممثل إنتاجيًا، لا إطلاق وحشيته “الأوموفاجية” إبداعيًا، حيث يصبح الممثل قربانًا للآلهة لا قربانًا لمنتج انتهازي. إنّ وضاعة معرفية مثل هذه، تجارية إلى حدّ بغيض، لا يمكن إلا أن تضعنا إزاء “قحط أنطولوجي”، بما يجعلنا أشبه بالمتسولين أمام بورصات في أسواق الرقيق الثقافي.

إن الإقامة ضمن حقول كهذه، لن تفضي جملة ورمة وتفصيلًا إلا إلى تلك النزعات من الخصومات الاقتصادية والاجتماعية، هذه التي يعدّها مسرحنا اليوم من أولوياته الفنية، فنراه متموضعًا ضمن سياسات السبي الأيديولوجي، والقوالب الجمالية السائدة سلفًا، وقد كان الأحرى بطيور الكاتيوشا والـ “آر. بي. جي” وخطابات السياسيين، أن تأخذ على عاتقها هذه المهمة، فثمة سلفية مسرحية، لا سلفية دينية “إرهابية” فحسب، ومثلما للثانية أحزابها وتنظيماتها، للأولى -أيضًا- حرّاسها، هم أولئك القتلة اللامرئيون.

يبدو أن كل فرد من هؤلاء، كل جهة من تلك الجهات؛ سواء أكانوا نقادًا أم مسرحيين أم منتجين أم إداريين، لا يقرأ أحدهم الآخر إلا قتلًا! إننا ازاء ثقافة تمتهن امتلاك السلاح، ذلك؛ أنها توطن نفسها ضمن دائرة تصفها بالحقيقة المطلقة، وهذا ما يجعلنا نصنّف بعض مثقفينا اليوم بـ “المثقف الداعشي”، فهو الذي يخون على الرغم من حداثته، يخون لأنه يجعل من هذه الحداثة نفسها مجرد استحداث للوهم الماضوي، مجرّد إقامة في مناخات قلع الأسنان.

نعم، لم يعد للمسرح شأن، إلا من حيث تموضعه إنتاجيًا؛ فما يريده الممثل والمخرج والكاتب والمنتج هو حفنة من الدولارات، أو التعبير عن عقدهم الاجتماعية والسيكولوجية، وهذا ما جعل المتلقي بعيدًا كل البعد عن تلك القاعات والأفضية؛ حيث وجد -في الراهن من هذا العصر- فرجات جديدة تلبي له ما يريد، سواء أكان ذلك بغاية التطهير أم التثوير، نعم. إن تحالف الخرافة والعلم ولّد لنا فرجة جديدة، تتضمن “الفرجوي الصادم”، أكثر ممّا هو في مسارحنا التي تعوّدت على بيع مسكنات للمتفرج، بينما ثمّة -الآن- مولد الدهشة في أشكال فرجوية، لا تخلو من دم تخلّفه أقدام فولاذية لتلك الخرافة، وهي تحمل طيور الـ “آر. بي. جي”، وتحتفل برائحة الشواء البشري.

--------------------------------------------------------
المصدر : جيرون 

إرسال تعليق

0 تعليقات

جميع حقوق النشر محفوظة لمجلة الأضواء المسرحية 2016

موقع الفنان والكاتب المسرحي محسن النصار

الاتصال بهيئة التحرير

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

زيارة مجلة الفنون المسرحية على الفيسبوك

زيارة مجلة  الفنون المسرحية على الفيسبوك
مجلة الفنون المسرحية على الفيسبوك

المشاركة على المواقع الأجتماعية

الأخبار المسرحية

الترجمة Translate

المشاركة في المواقع الأجتماعية

من مواضيعنا المتميزة