مجلة الفنون المسرحية
أحمد شرجي
دخل العراق القرن العشرين وهو محمل بتداعيات الهيمنة العثمانية، وما ولدته من اضطهاد وتعسف وكبت للحريات، ثم جاءت ثورة العشرين بفكر ثوري ، مناهض لكل أشكال الاحتلال والهيمنة الأجنبية \ الإنكليزية، ظهرت بوادر المسرحية التاريخية التي تستنهض روح الأجداد وتنقب عن مآثرهم البطولية، فكان من رواد هذه المرحلة (يحيى عبد الواحد، سليمان الصائغ ).
في الثلاثينات وبعد تأسيس الدولة العراقية في 23 شباط 1921، ظهرت المسرحية الاجتماعية التي تطالب بإصلاح المجتمع وتوعيته، فناقشت القيم الفاسدة التي بدأت تترسخ فيه، ومن هؤلاء الكتاب( سليم بَطي، نديم الاطرقجي)، ثم استمر المسرح العراقي بتقديم المسرحيات الاجتماعية ، والسياسية، التي تناولت قضايا مناهضة الاحتلال الإنكليزي، وبث روح المواطنة والحس القومي.
ارتبط تاريخ المسرحية الحديثة في العراق بقيام ثورة 14 تموز 1958، التي أسقطت النظام الملكي وقيام نظام جمهوري، انتشر فيه هامش الحرية، وتعددت الأحزاب لتمارس عملها بشكل علني داخل المجتمع العراقي ، ما ساهم بتغيير الخطاب المسرحي الذي بدأ يحمل فكرا تقدميا، تنويريا ، ومنهم "صفاء مصطفى، توفيق لازم ، شهاب القصب ، يوسف العاني، طه سالم، نورالدين فارس، عادل كاظم، علي حسين البياتي"( عمر الطالب، المسرحية العربية في العراق، ج2،ط1).
لا يمكن لأي باحث ان يكتب عن التطور الدرامي في المسرح العراقي، من دون التوقف عند تجربة الكاتب والممثل يوسف العاني، لأنه كان مجدداً فيها ، من خلال ملامح تجربته التي سار فها بشكل علمي ، بدأها بالواقعية الاشتراكية لغوركي الذي تأثر به وبالأدب الروسي كثيرا.
ومن بين أوائل أعماله مسرحية (راس الشليلة 1951) التي كانت أشبه بالتمثيلية الإذاعية، مغرقة بالصور الواقعية، على وفق متطلبات المرحلة التي كانت مليئة بالتناحرات السياسية، تلك الأوضاع العامة التي انعكست بمعالجات الكاتب العاني وزملائه بانتهاج الواقعية، أو الأسلوب الواقعي، الأمر الذي ميز أغلب تجارب العاني في فترة الخمسينات من القرن الماضي.
في الستينات كتب العاني أعمالا مسرحية أخرى منها (صورة جديدة 1964) التي مهدت لظهور أسلوب جديد في الكتابة المسرحية في المسرح العراقي بشكل عام، وتجربة العاني المسرحية بشكل خاص، حيث تتوج تجديده الأسلوبي في (مسرحية المفتاح 1967) وقدمت على المسرح عام 1968 ، بإخراج الأستاذ سامي عبد الحميد.
الجديد في المفتاح، هو ذلك التناول الأسطوري للحكاية الشعبية، منطلقا من المنهج البريشتي (الملحمي)، حيث كان التقطيع، واللوحات، والمواقف، وتوظيف الأغاني الشعبية، التي استلهمها من التراث العراقي، هذا التغير كان واضحا داخل النص منذ القراءة الأولى.
ساهم النص بتغير نوعية الكتابة الدرامية وشكلها في المسرح العراقي، بتعرفه على أساليب جديدة، حكايات شفاهية متداولة في يومياته، تجسد على خشبة المسرح بشكل فني، تحمل خطابا فكريا ، أراد له العاني ان يصل بوساطة رسائل يبثها النص ، بشكل سلس وبسيط، لكنه عميق في داخله ، لما يحمله من مضامين تنويرية، لان العالم يتغير ويتطور ، ونحن مازلنا نسير على وفق العقلية التقليدية التي تؤمن بالخرافات والأساطير.
بعد المفتاح ، انتقل العاني لمساحة أكثر بريقا وإشعاعا، متمثلا بالمسرح التسجيلي ، ورائده الألماني (بيسكاتور) في مسرحية (الخرابة 1970) وأخرجها قاسم محمد وسامي عبدالحميد إخراجا مشتركا، وفيها عرف المسرح العراقي كيفية توظيف الأفلام التسجيلية، الوثائق، الشهادات في العرض المسرحي، كمادة أساس يرتكز عليها العرض المسرحي، وجسد المخرجان ذلك من خلال نصب شاشتين سينمائيتين على جوانب المسرح لهذا الغرض.
يتساءل المخرج العراقي فاضل خليل: هل ان العاني هو وارث المسرح العراقي الحديث؟ ويجيب بنفسه عن تساؤله: بلى ، لأنه "من القلة التي استثمرت مخزونها المعرفي، أفكارا وحكايات وقصا متراكما، وما رافقه من ذكريات غنية، وأجندة خزنت الكثير من المدونات الخاصة التي أرخت لحقب عاشها العاني ويعيها بأمانة، فاستثمرها وصاغها بحذاقة الحريف"( خليل، فاضل،جريدة الزمان الدولية، في 25-8-2005، ج1) .
منذ ان اعتلى العاني خشبة المسرح لأول مرة في 24 شباط 1944، كان كاتبا وممثلا للعمل، فقد صاغ فكرة العمل من مزحة سمعها من احد أصدقائه، على الرغم من أنَّه كان نصا متواضعا كما يذكر العاني، لكن المثير للانتباه في هذا العمل، استثماره وانتباهه على المتداول اليومي، الشفاهي المتداول سنجده يكبر ويشكل جوهر تجربة العاني في الكتابة الواقعية، الحياة، الشارع، هي مركز الشخصيات وتشظيها في كتاباته، الإنسان وما يعانيه من تراكمات سياسية، انقلابات، ثورات، تغير نظام الحكم، الحركة السياسية النشطة ، تعدد الأيديولوجيات، الشيوعية ، القومية، الدينية ، كل هذا عرفه العاني ودونه بكل تفاصيله، "أبرزت تفاصيل الحياة اليومية للشخصيات، وفسرت أفعالها ودوافعها في ضوء انتماءاتها الاجتماعية وأوضاعها النفسية"( الياس ،ماري وحسن، حنان قصاب ،المعجم المسرحي، ص 517 وما بعدها) .
ذلك التدوين استفاد منه العاني ، ومن ثم توظيفه، كحوادث ، وشخوص كأبطال لمسرحياته،دخل للبيت العراقي ووضع يده على مشاكله اليومية، وأسقطها على المجتمع العراقي بأكمله.
الحقيقة التي أراد العاني ان يوصلها للجمهور، دفعته لاستخدام اللهجة الدراجة لإيصال خطابه المسرحي والفكري، للبسطاء من المجتمع الذين لا يجيدون القراءة والكتابة، وكما يقول العاني ، فإن هذا هو هدف الكتابة والمسرح الحقيقي، وإلا فما جدوى المسرح وهو يتحدث بلغة متعالية ، فخمة ، لا يفهمها الناس.
سعى العاني في جل كتاباته لإبراز جوانب النفس البشرية، مصدرها الحياة والشارع العراقي بكل ما يحمله من تناقضات، يجلب لنا صورا منها ، ويقدمها بشكل تهكمي ساخر ، مثير للضحك، هذه الروحية في الكتابة جعلته "يتغلغل في الحياة العراقية وينتزع منها صورا رائعة قوية مظهرا تناقضاتها الغريبة بشكل قوي مؤثر يثير الضحك والاستنكار في آن واحد، وهكذا يعطي يوسف العاني مثلا ساطعا على قول غوغول من ان التمثيل الهزلي عرض لحالة وحكم عليها"( خالص، صلاح، مقدمة 10 مسرحيات من يوسف العاني، ص12) ، صور مسرحياته مألوفة للمتفرج، وليست غريبة عنه، فهي منه واليه، لكن طريقة تناولها والسخرية التي كتبت فيها ، تجعلها غريبة عن لغة المنطق والعقل ،ناهيك عن اللهجة الدارجة التي يكتب فيها العاني مسرحياته.
لكننا سنجده ينتقل ، انتقالة مهمة وكبيرة في مسرحية (صورة جديدة 1964 ، وقدمت على المسرح 1967)، لأنها عمقت الصراع بين الشخصيات، شخصيات تتصادم فيما بينها ، وأيضا التمايز الطبقي الذي وجد في مسرحية (فلوس الدواء)، لكنه في (صورة جديدة) كان متميزا واضح المعالم كما يؤكد جميل نصيف التكريتي "ففي (فلوس الدواء) نحس هذا الانقسام بشكل غامض،....... اما في (صورة جديدة). فالتمايز واضح المعالم وكانت هذه المسرحية قد نأت بأسلوب المؤلف عن أسلوبه التقليدي القديم وخطوة هامة لظهور مسرحية المفتاح.".
نستشف من هذا أن مسرحية (صورة جديدة) ، كانت النقطة الفاصلة في تجربة العاني الدرامية، تفصل بين أسلوبين، زمنين، حيث يبرز لنا أسلوب أكثر عمقا ووعيا على مستوى الشخوص والمعالجة الدرامية ، تقطيع النص إلى لوحات.
كذلك فان صورة جديدة قد مهدت للنقلة المهمة والكبيرة، على مستوى الكتابة الدرامية في المسرح العراقي ، والتي تمثلت في مسرحية المفتاح ، لأنها حملت بوادر تجريبية مهمة على مستوى الكتابة والانتقال الإخراجي في المسرح العراقي.
حملت ملامح كتابية جديدة لم يألفها المسرح العراقي آنذاك، ولقد كان العاني سباقا ، باتخاذ منهج المسرح الملحمي لبرتولد بريشت ، منهجا ينطلق منه نحو تغيير هائل ، كان للعاني شرف الريادة فيه.
عرف العاني كيفية الاستفادة من الإرث البريشتي، وتكييف المفاهيم البريشتية، مع التراث الشعبي وبيئته المحلية، حيث كان في نص (المفتاح) "يخطو خطوات متقدمة في كتابة مسرحية ذات بناء درامي حديث مستثمرا التراث الشعبي من خلال أغنية فلكلورية شائعة...."( علي ،عواد، الزمان الدولية، في 4-3-2004) ، ومسرح بريشت هو الذي فتح عيون المسرحيين العرب على استخدام التراث والموروث في عروضهم المسرحية، استخدام التاريخ العربي، استحضاره، وطرحه برؤية محايدة، الأغاني، الأناشيد، شخصية الراوي ، ساهم كل ذلك في البحث عن الشكل لتأصيل المسرح العربي ، بما يعتمد التراث والفلكلور المحلي، مادة للعمل المسرحي، التأثير كان واضحا، من خلال:
- الحبكات المتعددة التي تكتنزها الأغنية الشعبية، ولقد "اتخذت الحكاية معنى محددا عند بريشت لانه لم يطرحها كقصة متسلسلة وإنما كحدث متقطع يرى المتفرج اجزاءً منه، وبذلك تختلف الحكاية عنده عن الحبكة في المسرح الدرامي. والقطع في الفعل الدرامي يتجلى لديه على كل المستويات: مستوى الخطاب المسرحي الذي يتضمن الحوار والسرد والأغاني، ومستوى المضمون ومستوى الأداء"( المعجم المسرحي، ص457 ومابعدها ) ،وبما ان الحكاية حدثت في الماضي فإن بيّنة العمل تعتمد على التقطيع، التقطيع الى لوحات، واللوحات تشكل نموذجا او موقفا، على وفق الحكاية وزمنها، وتعدد أماكنها، وتعتمد على الجانب السردي.
0 تعليقات