مجلة الفنون المسرحية
يسري حسان
--------------------------------------------------
المصدر : المساء
يسري حسان
كتب الألماني برتولت بريخت مسرحيته الأشهر "الأم شجاعة" عام 1939 أثناء وجوده في السويد هرباً من النازية مع غيره من المثقفين والكتاب الألمان.
المسرحية التي اعتبرها كثيرون أعظم نص كتب في القرن العشرين. تصور بشاعة الحرب ومآسيها من خلال الأم شجاعة التي تتكسب قوتها هي وأولادها الثلاثة من الحرب حيث تبيع للجنود وتشتري منهم. وتدور أحداث النص الأصلي فترة الحروب الدينية في أوروبا من 1624 إلي .1636
وعلي مسرح ميامي يقدم المخرج محمد عمر حالياً عرض "الأم شجاعة" بطولة النجمة رغدة. وعلاء قوقة. وأحمد أبوعميرة وصفاء جلال ومحمود عثمان وعدد من الممثلين الذين لم يهتم البيت الفني للمسرح بذكر أسمائهم هم وغيرهم من صناع العرض حيث لم يكلف نفسه بطباعة "بامفليت" للعرض.
اللافت للنظر أنني لم أعثر علي اسم "بريخت" علي أفيشات العرض التي جاء بها "كتابة وإخراج محمد عمر".. قلت ليس مهما ذكر اسم كاتب النص الأصلي حتي لو كان بريخت ذات نفسه. المهم أن يحافظ محمد عمر علي روح النص وطبيعته الملحمية وأن ينعكس ذلك في العرض. لكني. للأمانة. لم أنسجم مع كثير من الجمل التي جاءت باعتبارها شعراً في حين أنها مجرد كلمات موقعة بها العديد من الكسور العروضية. فضلاً عن محاولة الاستظراف في بعض الأحيان. ولأنها استظراف فهي لم تضحك. باستثناء لحظات أبدع فيها علاء قوقة الذي كان. في ظني. الأكثر إجادة في هذا العرض. والأكثر وعياً بطبيعة النص الربختي. حيث لعب دور "المذهبي" رجل الدين الذي يغير مذهبه دائماً حسب الظروف وتماهياً مع المنتصر.
شاشة عرض كبيرة في الخلفية استغلها محمد عمر في استعراض ويلات الحرب. مركزاً في كثير من الأحيان علي الوضع السوري. كما استخدم الشاشة في خروج بعض الممثلين منها إلي الخشبة وإن كانت الإمكانات لم تسعفه في التنفيذ بشكل جيد. واستخدام الحد الأدني من الديكورات. اتباعاً للمنهج البريختي. ونجح أحياناً وليس طوال الوقت. في جعل الجمهور لا يتعاطف مع شخصيات العرض ليركز أكثر في الموضوع ويطرح أسئلته حول ويلات الحرب. ويكتشف زيف المدعين من رجال الدين.
ولأن لا شيء علي المسرح يأتي بالصدفة. فقد فهمت من ملابس النجمة رغدة. خاصة الاستريتش الشفاف الذي يصورها كما لو كانت تضع وشماً علي ساقيها أنها ترمز إلي أمريكا التي تعتبر الحرب تجارتها الرائجة وتنزعج كثيراً عندما يحل السلام. لكن هذا التفسير يضربه تماماً قيام ابنتها الخرساء بدق الطبول لتحذير أبناء مدينتها من قدوم الأعداء فتتعرض للقتل. فمن تكون ابنة أمريكا الخرساء تلك؟
وبما أن محمد عمر هو الذي كتب. وبما أنه أراد الاسقاط علي الوضع الراهن. فقد فاته أن يتعمق في موضوعه لتصل رسالته علي النحو الأكمل. فإذا كان الصراع المذهبي وتجار الدين وتجار السلاح هم الذين يشعلون نار الحرب في نظر محمد عمر. فأين فساد الحكام وديكتاتوريتهم. وألا يعد فسادهم هذا وديكتاتوريتهم تلك السبب الأساسي فيما تشهده المنطقة الآن من ويلات.. لماذا القفز علي الحقائق وتجاهل السبب الحقيقي للمأساة الكبري التي تكاد تعصف بالوطن العربي كله.
الحق أن هناك ثغرات كثيرة في العرض وتشوش في الرؤية وقع فيه محمد عمر الذي أعرف خبراته الجيدة وشاهدت له تجارب أكثر تماسكاً وانضباطاً. كما أن رغدة النجمة الموهوبة والمثقفة بدت كما لو كانت تتعرف علي بريخت ومنهجه لأول مرة. فأبرز ما يعمل عليه بريخت هو عدم اندماج الممثل ورغم الجهد الواضح الذي بذلته رغدة في العرض فقد كانت تؤدي شخصية الأم شجاعة من سكة أخري تخالف المنهج تماماً حتي أن المشاهد في العديد من المواقف كان يتعاطف مع تلك الشخصية. وهو ما يضرب المنهج البريختي في مقتل. فإذا كان بريخت قد غاب اسمه عن الأفيشات فقد غاب منهجه أيضاً في العرض.
وأياً كانت وجهة نظري في العرض. فلا شك أن صناعه قد اجتهدوا وحاولوا تقديم عرض يرضي طموحاتهم وربما أعجب غيري واعتبره فتحاً مسرحياً مهماً. لذلك كان غريباً جداً أن يخرج هذا العرض بعد أكثر من 18 شهراً بروفات بدون دعاية جيدة وبدون ما يناسب والنتيجة أن مسرح ميامي ليلة مشاهدتي للعرض لم يكن له أكثر من 40 مشاهداً. منهم علي الأقل 20 من الزملاء النقاد والإعلاميين. فهل يليق أن يكون المسرح بهذا الوضع في عرض تقوم ببطولته نجمة في حجم رغدة. ويكون عن نص لكاتب في حجم بريخت حتي لو تم تدمير النص وتغييب صاحبه وقتل منهجه؟؟
المصدر : المساء
0 تعليقات