مجلة الفنون المسرحية
بعد مسرحيتي “حلقة المخادعين” و”حامل الحكاية” يقترح المؤلف والمخرج المسرحي، ألكسيس ميشاليك، الفائز بثلاث جوائز “موليير” مسرحية جديدة بعنوان “إدمون”، يروي من خلالها الظروف الحافة بتشكل مسرحية من روائع المسرح الفرنسي في القرن التاسع عشر، هي “سيرانو دو بيرجوراك”، في عرض مبتكر على “مسرح القصر الملكي” بباريس، يجمع بين المسرح الكلاسيكي والتقنيات السينمائية.
“إدمون” هو إدمون روستان (1868/1918) أحد عباقرة المسرح الفرنسي، رغم أنه كان يجدف ضد التيار، إذ كان يأنف من النثر، ويتشبث بالمسرح الشعري في وقت كان الاتجاه العام يسير نحو التجديد، على غرار كورتلين وجورج فايدو وأوجين لابيش.
بالموازاة، ينطلق المخرج والمؤلف المسرحي ألكسيس ميشاليك في مسرحيته الجديدة المعنونة بـ”إدمون”، والتي تعرض حاليا بـ”مسرح القصر الملكي” بباريس، من نقطة فارقة في مسيرة روستان الفنية، ديسمبر 1897 على وجه التحديد، حين ألفى نفسه عاجزا عن تأليف عمل جديد ينسي النقاد وهواة المسرح عمله السابق “الأميرة النائية” الذي لم يحظ بالقبول عند عرضه على خشبة “مسرح النهضة”، رغم تقمص سارة برنار دور البطولة.
كان قد مر عامان على صمته، حين نصحته صديقته سارة برنار بالتعاون مع النجم المعروف كونستان كوكلان (1841 /1909) للخروج من أزمته، فاقترح على هذا الممثل الكبير مسرحية شعرية ملحمية يعتقد اعتقادا راسخا أنها سوف تحوز إعجاب الجميع.
اقتنع كوكلان بالمشروع وتحمس له، ولكن المشكلة أن روستان لم يكتب منه بعد حرفا واحدا عدا العنوان “سيرانو دو بيرجوراك”، والحال أنه ينوي عرض المسرحية بمناسبة أعياد آخر السنة، أي أنه سباق ضد الساعة، كيف سيكتب نصا شعريا ملحميا متميزا في وقت وجيز؟ وكيف يتمرن الممثلون على أدائه ليعرض على الجمهور بعد أيام معدودة؟
كل من حوله شكوا في جدية هذا المشروع وقدرة روستان على إنجازه، لا سيما أن الوقت ضيق، ولكنه أثبت العكس، فبرغم الضغوط المتعددة التي كانت تواجهه، بدءا بعامل الوقت، وانتهاء بغيرة زوجته روزموند ونزوات بعض الممثلات ومرورا بشروط المنتجين الكورسيكيين المجحفة، توصل روستان إلى صياغة نص فريد في الموعد المحدد، أثنى عليه النقاد ورجال المسرح عند عرضه أول مرة في 28 ديسمبر 1897 في مسرح “باب سان مارتن” بباريس، وشكل حدث الموسم ساعتها، ثم عُدّ لاحقا رائعة من روائع المسرح الفرنسي.
كذلك تبدأ مسرحية “إدمون”، أي حين التقى روستان بسارة برنارد ثم بكونستان كوكلان، وتولدت فكرة تأليف “سيرانو”، تحت سطوة تلك الضغوط، والتفاصيل الصغرى التي يستمدها المخرج من حياة روستان حينا، ويستوحيها من تجربته الشخصية كرجل مسرح حينا آخر.
الانتقال بين الواقع والمتخيل يجري على نسق سريع في مسرحية "إدمون"، ما يجعل الأحداث تختلط وتتمازج
وبذلك نشهد المسرحية وهي تُكتب، ونشهدها وهي تُمثل؛ وسط حشد من الأضواء والديكور الباذخ، ينشط الممثلون الاثنا عشر بأزيائهم الكلاسيكية في أداء أدوار مؤثرة حينا ومسلية حينا آخر، ليغوصوا في عملية الخلق، وتشكل نشأتها، ويحتفوا بالمولود حينما صار خلقا سويّا، أي أن المتفرج يشاهد مسرحيتين؛ الأولى تنطلق من وقائع حقيقية بطلها إدمون رسوتان، ولم يتعد وقتها الثلاثين، مع زوجته روزموند وولديه، والثانية متخيلة بطلها سيرانو الذي يقال إنه شخص حقيقي عاش في القرن السابع عشر، وحبه العميق لروكزان، ذلك الحب الذي بدا مستحيلا بسبب شوهة خلقية في أنف سيرانو، وتعلق روكزان برجل آخر دونه ثقافة وشاعرية وصدقا في العواطف.
الانتقال بين الواقع والمتخيل يجري على نسق سريع في المسرحية، ما يجعل الأحداث تختلط، وتتمازج بشكل يسمو بها إلى مناطق الحلم.
تنجح الفرقة في خلق عالم مخصوص، يتبدى خلاله الشخوص بشكل كاريكاتيري، يلح على بعض الملامح ويضخمها كي تغدو مضحكة، كما هو الشأن مع المنتجين الكورسيكيين، وهم في الأصل من المافيا التي تدير بيوت الدعارة، أو الممثلة التي ستتقمص دور روكزان، وقد جمعت إلى الانتهازية والنرجسية المرضية سوء الطبع وتقلب المزاج، وروستان نفسه، بهشاشة بدنه وشدة خجله، والذي غالبا ما يكون محل سخرية لنبذه الكحول ووفائه لزوجته.
“إدمون” هي إخراج مسرحي حديث لإخراج مسرحي كلاسيكي، تتناوب فيه المشاهد بين مسرحية “إدمون” وبين مسرحية “سيرانو” التي يؤديها الممثلون أمامنا، أي أنه مسرح داخل المسرح، عالجه ميشاليك بمهارة عبر إيقاع مدروس، يتوخى المشاهد القصيرة، والخطابات الموجزة، والإيحاءات الدالة، وتغيير الديكور في لمح البصر، مضفيا على العرض روحا مرحة من خلال مواقف مضحكة، كفواصل بين زخم من الأحداث والشخصيات قد يتيه فيه المتفرج.
وكما هو الشأن في مسرحيتيه السابقتين “حلقة المخادعين” و”حامل الحكاية”، يعتمد ميشاليك على إخراج أقرب إلى التقنيات السينمائية، من جهة تعدد تغيير الديكور في أوقات قياسية، واستعمال المؤثرات الصوتية والخدع السينمائية والموسيقى التصويرية.
ميزة ميشاليك أنه يميل إلى سرد حكايات متداخلة، تجمع بين الواقع والخيال، بين المعيش والحلم، يأخذ المتفرج منذ رفع الستار إلى رحلة يهجر فيها زمانه وموقعه ليحلق في فضاءات وأزمنة أخرى، بأعلامها ومعالمها وخصوصيات عصرها.
وقد استعملها هنا لاستعادة أجواء خلق “سيرانو دو بيرجوراك”، ليمسرح على الخشبة مصادر الإلهام ومولد تلك المقاطع الطويلة التي صارت من مآثر اللغة الفرنسية وآدابها.
-----------------------------------------
المصدر :أبو بكر العيادي - العرب
0 تعليقات