مجلة الفنون المسرحية
سيناريو تخطيطي أوّلـي
لعـرض
مسرحيـــة
العـــرس الوحشـــي
تأليف : فـلاح شاكــر
قصة هذه المسرحية
قبل خمسة عشر عاماً قرأت رواية العرس الوحشي ليان كفلك وأخذتني في دوامة من الألم والغصة .. فاستوحيت منها هذه المسرحية .. وكنت أتهيأ لإخراجها حين بدأت حرب 1991 .. بعدها ما أن أهمّ بقراءتها حتى ينتابني ألم لا أستطيع مقاومته .. حاول الفنان محمود أبو العباس إخراجها .. لكن الظروف لم تسمح أن ترى النور .. وفقدت النص كما هي عادتي .. إذ أنّ أغلب نصوصي لا أمتلك نسخة منها إلى أن بدأت زوجتي تأرشف وتحاول جمع ما تستطيع من نصوص وأنا دائماً ضدّ النشر .. لأسباب موضوعية وخاصة أمّا الآن وقد اختنقت العروض المسرحية في العراق فإني مضطر إلى النشر لأقول كلمتي .. بعدها عرفت أن المسرحية أخرجت في المغرب الشقيق .. ولم أشاهدها .. رغم استلامي لحقوقي المادية .. لم أستطع الحصول على نسخة من المسرحية ثم قرأت أنّها عرضت باللغة العربية في السويد وبعدها قام المخرج السويدي بإخراجها بعد ترجمتها .. توجد دراسة رائعة للمقارنة بين العرضين للدكتور حسن السوداني منشورة في جريدة مسرحيون التي تصدر في السويد ورغم استلامي حقوقي المادية أيضاً لم أحصل على نسخة من النص .. وأخيراً أراد الفنان أحمد حسن موسى إخراج العمل ومنه عرفت أنّ أحد الطلبة في كلية الفنون الجميلة قدمها اطروحة تخرج .. لكنه للسف غادر العراق .. واستمر بحث الفنان احمد إلى أن حصل لي على نسخة من النص غير مكتملة .. واعدت قراءته .. ولم أغير منه الكثير .. رغم أنه يمكن أن يتطور أكثر .. لكن أحببت أن يبقى بنفس روحيته الأولى ولم أفعل سوى أن غيّرت بعض المفردات والجمل التي كانت تدلّ على أن الأحداث تدور في فرنسا وجعلت البيئة عراقية خاصة أن المخرج السويدي فعل هذا في الإخراج . وها أنا أنشر النص .. وأشك .. وبعض الشك فضيلة .. أن يرى هذا العمل النور في عراقنا الجميل في ذاكرتنا وإرادتنا رغم كل ما يحدث يومياً
فـلاح شاكـر
المشهــد الأول
الأحداث تدور في عبّارة نقل نهري متضرّرة راسية على أحد ضفاف دجلة
الابن : تكذبين
الأم : من أجلك أنا هنا
الابن : تكذبين
الأم : لماذا لا تصدقني ؟ أتيت من أجلك
الابن : تكذبين
الأم : أنا هنا .. ألا تراني
الابن : تكذبين
الأم : يا إلهي .. ألا تصدق وجودي قربك ؟
الابن : تكذبين
الأم : تُكذّب نيتي ؟ ربما تستطيع ذلك لكنك لا يمكن أن تُكذّب حضوري .. هل يمكنك أن تنكر أني هنا ؟
الابن : تكذبين
الأم : أنت تصيبني بالصداع
الابن : أحبك ..
الأم : آه .. وأنا أيضاً .. هيا بنا نغادر هذا المكان
الابن : أحبك ..
الأم : اسمع يا صغيري .. هذه السفينة الغارقة المهجورة .. ربما تجنح في أية لحظة .. هيا بنا نغادرها ..
الأم : لنغادر السفينة أولاً .. وحين نكون في أمان تستطيع أن تتحدث عن عواطفك كما تريد .. هيا بنا ..
الابن : أحبك
الأم : لماذا لا تتحرك ؟ لماذا تريدنا أن نموت ؟ ألا تحب أن نحيا معاً ؟
الابن : أحب البعوض
الأم : ماذا ؟!
الابن : لسْعَتـَهُ جعلتني أشعر بيدي ..
الأم : الحشرات هنا كثيرة .. ستمرض من لسعة حشرة ما …
الابن : إنها لا تتركني وحدي ..
الأم : مَـنْ ؟
الابن : تلسعني .. تعانقني ..
الأم : الحشرات ؟!
الابن : أحبها ..
الأم : يجب أن أنقذك .. لنغادر
الابن : تريدين النقود ؟!
الأم : لنخرج أولاً .. ثمّ ..
الابن : جئت من أجل أن أدُلـّك على النقود
الأم : بل من أجل إنقاذك ..
الابن : تنقذينني من أجل النقود ..
الأم : كلاّ .. بل لأني أمك
الابن : لا لأنك تحبيني .. بل لأنك أمي
الأم : بل لأني .. لأني .. هنا ..
الابن : أنت لا تحبيني .. تريدين النقود
الأم : ليس من أجل النقود أنا هنا
الابن : لنحرقها ..
الأم : ماذا ؟
الأم : لنحرق النقود حتى تكوني هنا من أجلي ..
الأم : تحرق النقود ؟ تحرق كل ما خرجت به من هذه الدنيا ؟
الابن : حتى تكوني هنا من أجلي
الأم : من أجل هذا فقط ؟ هل ثمة عاقل يحرق ثروة طائلة من أجل فكرة كهذه ؟
الابن : كنتم دائماً تعاملونني على أني مجنون .. فلماذا تريدون مني الآن أن أكون عاقلاً ؟
الأم : لم تكن مجنوناً .. كدت تصيبني بالجنون .. وها أنت ستفقدني عقلي مرة أخرى
الابن : أنت لا تحبينني
الأم : عدنا ثانية إلى هذرك ..
الابن : إنك لم تنظري في عينَيَّ قط ..
الأم : عيناك ..
الابن : كنت أمي ولم تنظري في عينَيَّ ..
الأم : كنت أمك .. ؟
الابن : سأعطيك نقودك كلها إذا نظرتِ إلى عيني بحنان مرة واحدة
الأم ( بجزع ) : أنظر في عينيك ؟
الابن : دقيقة واحدة فتعود لك كل نقودك
الأم : لا أستطيع .. أنا
الابن : كنت أمي ولا تستطيعين أن تنظري إلي .. لا تكوني أمي .. انظري إلي من أجل نقودك
الأم : لا أستطيع
الابن : نقودك .. ( يطمع الأم )
الأم : محاولة لأن أنهض من موتي ..
الابن : انظري لعيني ..
الأم : سيقتلني .. أن
الابن : نقودك
الأم : تدلّني على مكانها ..؟
الابن : لم أكذب قط
الأم : لا تنظر إلي الآن .. ليس من أجل النقود .. ربما لأجلها .. آه .. عليّ أن أواجه ما يرعبني .. آه .. لون عينيك لم أنتبه إليه قط .. !
المشهـد الثـانــي
(( في هذا المشهد تبدأ الأم بالنظر إليه تدريجياً .. تبدأ بأظافره .. مروراً باليد ثم الكتف فالرقبة والفم وصولاً إلى عينيه .. وحين تراهما .. ( تصرخ ) وتنتابها حالة الهستيريا .. تستحضر الآن مشهد اغتصابها كاملاً .. إنها لا تستعيده كجزء من الماضي .. بل كأن الاغتصاب يحدث الآن .. ))
الأم : ويل .. لا .. لا ويل كذبت عليّ .. لا يا ويل لن تجعلني مومس .. لازلت صغيرة .. ليس ثلاثتكم .. ليس ثلاثتكم …
(( تبصق .. تصفع .. صفعة وهمية .. ترفع من الأرض ثم تلقى .. تصرخ .. تضرب عدة ضربات .. على الممثلة إن استطاعت ومن دون أن يشعر الجمهور بحركتها وكأنها تدافع عن نفسها .. أن تضع فوق وجهها وفوق ملابسها دم .. كأن الضرب حقيقي ))
(( الجمهور هو الذي يتوهم غياب المغتصبين الثلاثة .. تبقى تقاوم لكنها تنهار .. يغمى عليها .. تبقى ساكنة رغم أنها تسمع من حولها لهاث .. كأنها جثة كل حين تتخذ وضعاً مغايراً كأن يداً وهمية تحرّكها .. لحظات صمت طويلة .. يتحرك الابن باتجاهها .. يحاول إيقاضها من غيبوبتها ))
الابن : جميلة .. جننتِ ؟ جننتِ أم توهّمتِ جنونك .. لستِ راحلة إلى السماء .. ما زلتِ فوق الأرض تتنفسين ..
(( يدنو برأسه من صدرها محاولاً أن يعرف تتنفس أم لا .. تصحو .. تراه .. تجفل .. تصفعه بقوة ))
الأم : لا تلمسني أيّها الأمريكي القذر
الابن : جميلة أنا عراقي من صلب أمريكي
الأم : لست كذلك .. أنت ابنهم .. ثلاثتهم …
الابن : وأنتِ ؟
الأم : أنا حادثة
الابن : أمي
الأم : لا أمّ لك
الابن : البحر ..
الأم : ربما البحر أمك .. انهم جنود البحرية الأمريكية يضاجعون البحر ببوارجهم ، حورية البحر أو جنّية تلك التي رمتك في بطني لتتخلص من عارها
الابن : شعرك البحر ..
الأم : ماذا ؟!
الابن : أمي البحر .. وشعرك البحر ..
الأم : غرقت منذ زمن بعيد .. حينما جئت أنت متُّ أنا ..
الابن : كنت في بطنك .. تقيـّأتني للخارج .. لم تحبيني .. لِمَ تقيـّأتني للخارج ؟ اتركيني أتعفـّن هناك .. لماذا ؟ لماذا لا تحبينني ؟
الأم : لم تكن إلاّ ثمرة عذاب ظالم .. فهل هناك مَنْ يحبّ ظلماً وعذاباً أنَّ تحت وطأته ..
الابن : قطع الحطاب شجرة .. لماذا يـُقتـَل العصفور الذي حمَـَلَتـْه ؟
الأم : أعرف .. لا ذنب لك .. لكن ما عساي أن أفعل ؟ لم أستطع أن أكون أمك .. كنت عذاباً يمزّق أحشائي .. صرت آلاماً في رحمي تطيل لحظة عذاب الاغتصاب حتى الأبد
الابن : أنَخْنقْ العصفور لأنه سيكشف عن بشاعة الحطاب أم نقتله لأنه يفضح سكوت الشجرة عن قطعها ؟
الأم : لا قوة لي أمام فؤوس أيديهم .. ثلاثة أمام طفلة في الثالثة عشر .. طفلة تنفخ في ثيابها حتى تشابه حلم المرأة الذي حلمته .. كلاّ .. لم أستطع أن أحبك .. لا ذنب لك ولا ذنب لي .. لم أكن قادرة على حبك .. هذه كلّ أسبـابي
الابن : لماذا تركتني أخرج من خطيئتهم إلى عذابك ؟
الأم : وهل أردتك أن تخرج ؟
الابن : لم أولَدْ بإرادتي ..
الأم : ( تصرخ ) ولا بإرادتي .. كان حملك اغتصاب ثان .. بل أشدّ عذاباً وشعوراً بالخزي ( تتكلم بسرعة وألم ) كانت حركتك في بطني تدفع بي إلى الجنون .. ربطت نفسي بالسوط حتى أخنقك .. شددت السوط حتى غامت عيناي وغبت عن نفسي .. وضعت كل ثقل خلقه الله فوق بطني .. تشقلبت .. رميت نفسي مرّات ومرّات من فوق السرير إلى الأرض .. بطني تكاد تتمزّق من صلابة الأرض وأسناني تصطك من الألم والغضب .. لكنك رغم هذا تشبّثت بي .. لم تمت .. كنت تتعمّد البقاء حتى يكون الألم والفضيحة والعار والعذاب كاملاً ..
الابن : وأتيت ..
الأم : فذهبت عنّي طفولتي بمجيئك .. وجدت نفسي امرأة عجوز تحمل عارها وعذابها
الابن : كنت عذابك
الأم : وعاري ..
الابن : وأنت ؟
الأم : وأنا ماذا ؟
الابن : وأنا ماذا ؟
الأم : ماذا تقصد ؟
الابن : عذابي .. جنوني .. من كانا ؟
الأم : تقصد من مَنْ ؟
الابن : لم تكوني السبب في عذابي وجنوني ..؟
الأم : نعم لم أكن ..
الابن : لم تكوني لأنك أنت عذابي وجنوني ..
الأم : نحن ضحايا .. والضحايا لا يملكون اختياراً ..
الابن : كنت ضحيتكِ
الأم : وأنا ضحيتهم
الابن : مَنْ أبي .. ؟
الأم : جلاّدنا ..
الابن : ومنْ جلاّدنا ؟
الأم : أبوك
الابن : أريد شفقة
الأم : أنا في خيبة وعذاب لا أستطيع فيها أن أشفق حتى على نفسي ؟؟
الابن : ( يرقد ) لماذا لا تريدين شفقتي عليك إذاً ؟
الأم : أنت تكذب ..
الابن : نعم أكذب .. لم أشفق عليكِ لأني أحبك ..
الأم : ليتك تكرهني وتغيب .. ربما أنسى ما حدث .. لكنك تشبّثتَ بي متوسّلاً إليّ بحبك فأجنّ .. كلّما شعرت بحبك .. شعرت بألم اغتصاب جديد .. فهل تدرك مقدار ما يسببه حبّك لي من عذاب ومهانة ..؟
الابن : أهناك حُب مُهين ؟
الأم : نعم .. حين نحب دون كبرياء
الابن : لكنّي مجنون أفعل ما يحلو لي .. ألست مجنوناً ؟
الأم : ليتك كنت فأرحتني
الابن : أكنتُ عاقلاً ؟
الأم : ليتك كنت فأرحت نفسك
الابن : وأنتِ ؟
الأم : كسوف قمر في النهار .. أردتك مجنوناً حتى أكرهك لأنك مجنون لا لأنك ثمرة خطيئتهم ..
الابن : لستُ بمجنون ؟
الأم : ما كان لأمٍّ مهما كان الأب ألاّ تحبّ ابنها إلاّ إذا كان فيه عيب يبرّر كرهه ..
الابن : عاقل ؟
الأم : أضفيت عليك الجنون فلم تعد عاقلاً ..
الابن : ولا مجنون
الأم : بين جنونك وعقلك ضاع ضميري
الابن : سأبيعه لكِ
الأم : ضميري ؟
الابن : ليلةً كوني أمي .. ستشترينه ببضع ساعات
الأم : يا له من ضمير رخيص ذاك الذي أشتريه بتوبة بضع ساعات ..
المشهــد الثالــث
(( الابن يدخن ))
الأم : أنت لم تدخّن من قبل
الابن : لا أدخّن .. ولا أشتهي أن أدخّن .. ولكني ما دمت أستطيع فلماذا لا أفعل ؟ ربّما مَرَضي .. سعالي .. يلفت انتباهك إليّ ولو لحظة .. ربّما أشفقتِ عليّ .. لا أستطيع أن أطلب الحب من ضحية .. لكني أمنح نفسي الحق أن أطلب منها شفقة على ضحية أتعس منها .. الشفقة ربما توهمني بالحب .. وهذا الوهم يكفيني
الأم : سعيد مَنْ يستطيع أن يتبنّى وهماً ويصدّقه
الابن : أنا لا أعرفك
الأم : ماذا ؟
الابن : أنت لا تعرفينني
الأم : كيف ؟
الابن : أليس من الممكن إنقاذ إنسان يغرق حتى لو لم نكن نعرفه ..
الأم : هلاّ أنقذت نفسي أولاً
الابن : لنبـدأ
الأم : بمـاذا
الابن : بالنسيان
الأم : أنا الذكرى نفسها
الابن : آه .. الأم : ماذا بك ؟
الابن : أنا ضائع .. أبحث عن أهلي .. هل من الممكن أن تدلّيني على شارع الرشيد ؟
الأم : ما هذا ؟
الابن : هكذا سنبدأ .. نلتقي غرباء
الأم : غرباء ؟
الابن : ربما نحب بعضنا إذا نسينا مَنْ نكون
الأم : هذا جنون
الابن : وأيّ عقل في أن تكره أمُّ ابنها ؟
الأم : لست أمّك
الابن : غرباء إذاً .. أنا ضائع .. أبحث عن أهلي .. هل من الممكن أن تدلّيني على شارع الرشيد .. ومن هناك سوق …
الأم : انه .. انه ..
الابن : فهمت أشكرك جداً .. آسف لأني أخذت من وقتك
الأم : الوقت طويل .. رغم هذا فقد ضاق عذابي
الابن : ما زلتِ صغيرة وعذراً إذا ما أطلت الحديث .. فنحن المراهقون نعشق عادةً من هنّ في سِنّ أمّهاتنا ..
الأم : هل أمك في مثل عمري ؟
الابن : بل أنتِ أكبر منها قليلاً .. لكنك أجمل
الأم : شكراً
الابن : هل لديك أولاد ؟ ( الأم تجفل ) حَزَرْتْ .. لم تتزوجي بعد .. ليس مهمّاً هذا .. الكثير من النساء لا يتزوّجن ، وهذا أفضل .. لأنكِ من الممكن أن تحبّي أيّ طفل وكأنه ابنك .. بينما لو كنت متزوّجة ..
الأم : أنـا ..
الابن : حينئذ ستحبّين طفلك أكثر من كلّ أطفال العالم .. وهذه أنانية .. منتهى الأنانية أن تحبّي ابنك أكثر من العالم .. من أجل هذا فالزواج مؤلم للضمير .. كل أطفال العالم أبناؤك الذين تحبين ..
الأم : كلـهن ..؟
الابن : أنا أحدهم .. اسمي .. اسمي ..
الأم : لا لست ..
الابن : اسمي فريد
الأم : اسم جميل
الابن : وماما تدلّعني وتسمّيني فردة
الأم : فردة ؟
الابن : فردة حذاء !! ( يضحكان بصخب )
الأم : أنت ذكي
الابن : لكنّي لست جميل
الأم : مَنْ قال هذا ؟ يا صغيري على العكس .. أنت .. أنت جميل ..
الابن : حقّـاً ؟ لماذا لا يحبّونني إذاً ؟
الأم : مَنْ يجرؤ على ألاّ يحبك ؟
الابن : تقولينها حقيقة ؟!
الأم : نعم .. فأنا .. فأنا .. ( تصرخ الأم خارجة عن اللعبة ) أنا لا أستطيع .. لا أستطيع .. لا أستطيع أن أحبك حتى وهماً ..
الابن : ( يصرخ ) لكنّي أحبكِ
الأم : تحبني ؟ أنت لم تقل لي ماما أبداً
الابن : ماذا ؟
الأم : قل ماما ( يحاول أن يقول ماما وبجهد رهيب يصرخ )
الابن : ماذا ؟!
الأم : لماذا لا تقلها ؟
الابن : لأنكِ لم تلعبي معي قط
الأم : ألعب معك ؟ أنا وأنت لم نكن في يوم ما أطفال قط .. نحن ضحايا .. والضحايا تغادرها البراءة ..
الابن : العبي معي
الأم : لا تكن سخيفاً
الابن : سأقولها .. سأعطيكِ نقودك
الأم : لا أستطيع
الابن : ( يغمض عينيه ) أين أنتِ ؟ .. أين أنت ؟.. ( يصطدم بها ) لماذا لا تخبـّئي نفسك ؟
الأم : وأين هي حتى أخبـّئها ؟
الابن : إنها هنا ..
الأم : أين ؟
الابن : ( يشير إلى أرجوحة ) في الأرجوحة
الأم : سقطت منذ زمن طويل
الابن : بل طارت .. إنها هنا .. هنا .. ( يأخذ أمّه ويركبها الأرجوحة )
الأم : أخاف .. أخاف .. ويحك اتركني
الابن : ( ضاحكاً ) ستعتادينها .. لا .. لا تخافي .. بل استمتعي ..
الأم : إني أطير .. أطير
الابن : خذيني معك
الأم : تعال .. تعال ( يتأرجحان معاً .. تتوقف الأرجوحة .. ينام في حجرها )
المشهـد الرابــع
الأم : ( تغني له ) نام ستكبر يوماً .. لا تنسى طفولتك .. نام .. ستكبر يوماً وتزوّجك أمك .. ( تبتعد بفزع ) ويل .. ويل .. ستغتصب .. ابتعد .. ابتعد عنّي .. يا للّحظة الغادرة .. يا لها من مشقّة أن تنسى للحظة كلّ أحزانك .. لا أريد أن أنسى آلامي ( بألم ) ولكن هذا مستحيل .. لو فرحت بالنسيان لحظة كبرت آلامي سنوات .. ليس من حقّي أن أنسى .. أنا مستباحة للجنون ..
(( تتقدم نحوه بهستيريا وهو يستسلم لها دون مقاومة )) ابتعد .. ابتعدي عنّي أيّتها الذكرى الأبدية .. يا شقائي .. ابتعد .. اذهب .. اذهب من نفسي .. غادر أنفاسي وإلاّ اختنقت برائحتك الكريهة .. رائحة الويسكي المعجون بالدم .. رائحة الضوء الأصفر المتأرجح فوق ملابسي الممزّقة .. ( ترى عينيه الجاحظتين .. تتركه وتهرب فزعة ) آه .. عيناك لا تغادرني .. عيناه .. عيناك تسكنان عقلي الخرف ..
الابن : ( بصوت متحشرج وألم ) لِمَ لم تكملي .. ؟
الأم : لا جدوى
الابن : عاجزة أن تكوني جلاّداً .. إعتدتي أن تكوني ضحيّة ..
الأم : لا جدوى .. لا جدوى .. حتى وإن رغبت فعاري يسبح في دمي .. إنّ خيبتي أبديّة
الابن : أنت ربما أخطأتِ .. إستغفلتي .. أمّا أنا فلم يستغفلني أحد حتى تُبَرَّر كلّ الخيبة التي أنا فيها ..
الأم : كفاني ضحية .. غب عنّي .. غب عني حتى أحاول مرة أخرى
الابن : لا أستطيع .. أحبك ..
الأم : لا تطلب حباً من إنسان أُقتُلِعَ قلبه ومات
الابن :ظـلْ
الأم : الشجرة ماتت أوراقها .. غادرها ربيع الحلم .. إذا قُتـِلَ حلم البيت داخل المرأة فإنها ستكون مستباحة .. وحينئذ العالم كلّه حتى السموات لا يمكن أن تكون بيتاً صالحاً لها ..
الابن : وهم بيت
الأم : الموتى لا يؤمنون بالوهم .. ميتة
الابن : مَنْ ؟
الأم : أنـا
الابن : وأنت .. ؟
الأم : أنـا ..
الابن : وماتت حاجتك إلى النقود ؟
الأم : تلك ستعيد إليّ حياتي .. إنها ثمن ما بعت ..
الابن : ومَنْ اشترى ؟
الأم : ذاك الذي دفع ..
الابن : بِكَم ْ أستطيع أن أشتريكِ ؟
الأم : ويحك ؟ أنا أمّك ..
الابن : اشتراكِ لكي تكوني زوجة له .. وأريد أن أشتريكِ حتى تصبحي أمّي ..
الأم : لا أملك ما ترغب أن تشتريه
الابن : إذاً فأنتِ لا تملكين شيئاً
الأم : أنا أمك ..
الابن : بـكم ؟
الأم : بظلمهم وخطيئتهم
الابن : ذلك ثمن بخس ..
الأم : ماذا تريد ؟
الابن : أن تشتريني ولـداً
الأم : لا أملك ..
الابن : أنا لا أساوي شيئاً
الأم : أنا لا أملك هذا الذي لا يساوي
الابن : لا تريدين
الأم : وإذا أردت لا أستطيع
الابن : تريدين نقودك ؟
الأم : نعم
الابن : سأبيعها لك ..
الأم : تبيعها ؟
الابن : بعذاباتي
الأم : عذاباتك
الابن : ما سمتيـه لي من عذاب تأخذينـه منّي
الأم : آخذه ؟
الابن : بعتـي أيّاماً كثيرة زوجة لمترجم حتى تحصلي على هذه النقود .. أردّها إليكِ مقابل ليلة واحدة
الأم : ليلة واحدة ..؟
الابن : تتعذّبين مثلما تعذّبت .. تبكين مثلما بكيت .. أرى في عينيك دموعي فأضحك منها .. أتحرّر من محبّتي لك ..
الأم : تتحرّر ؟
الابن : ليس شرطاً مستحيلاً .. والآن لنبـدأ ..
الأم : كيـف ؟
المشهــد الخامــس
الابن : في مخزن الغلال .. ما أن ولدت حتى حُجزت هناك .. سُجِنت في مخزن الغلال حيث قنينة الحليب باردة جداً أو حارّة جداً .. أردت موتي ..
الأم : إنّهـا …
الابن : أمّكِ التي كرهَتْ عاركِ .. أو أمّي التي كرهت عاري ..
الأم : لمـنْ
الابن : لمن شاؤوا .. سنتان أو ثلاث .. عمر طويل قضيته جاثماً على أنفاس حرّيتك .. تريدين موتي .. حجزتني في مخزن الغلال ( فجأة يصبح عدائياً بشكل كبير )
الابن : ( رغم أنه يقول حواره وكأنه موجّه لنفسه إلاّ أنه يجبرها على أن تتتخذ الأوضاع التي كان يعيشها ، انه يمارس عليها عنفاً لا تستطيع أن تردّه أو تتخلص منه فتطاوعه بخوف وألم .. شيئاً فشيئاً تجتاحها مشاعر الأمومة .. تتعاطف معه ضدّ نفسها .. تؤذي نفسها بحركات تقمّص عالية لحالته .. إنها حركياً تحاول أن تبدو نفسها .. يكاد يكون انتحاراً )
الابن : في مخزن الغلال تعوّدت ظلمته .. وإذا ما تسلَّلَتْ الشمس أخافني ضوءها أذكر خارج المخزن .. كان فرناً كبيراً ذاك الذي أردتِ قذفي فيه .. منعكِ أبوكِ ومنع الخبز عني .. لم يكن يحبني .. أراد موتي لكن الأمريكان كانوا دائماً ضيوف مزرعته … ويخاف العقاب … معاقبتهم أو عقابك … لقد اغتصبك هو أيضا حين اعتقد انهم خلاصه واصدقائه . في مخزن الغلال .. وجبه واحده تأتيني ظهراً … ست سنوات وحدي … احكّ المسمار في الجدران حتى اثقبها وارى أبي … أي شيء يصيبني بالرعب … إذا سال اللعاب على شفتي جفلت … إذا لامست يدي الأخرى صرخت مرعوبا … تأتيني … لا مشاعر … لم تكرهيني ولم تحبيني .. كنت جداراً أو باباً .. أو .. لو كرهتني لفرحت لأني سأكون حيّاً أمامك .. أمّا لو أحببتني .. سأموت فرحاً .. كنت غبية .. أردت لي الموت ولم تهتدي إلى وسيلة .. كان الأمر سهلاً .. لو أردت قتلي حقاً كان يكفيك أن تحبيني قليلاً فتقتليني .. لا شيء هنا في مخزن الغلال .. لاشيء .. مرآة صغيرة لا أرى فيها سوى عيني .. أحببت عيوني لأنها الشيء الوحيد الذي رأيته منّي .. في الشتاء أنام في قعر دولاب ملتحفاً خوفي ومعطفاً عسكرياً قديماً ..
الابن : ما يرعبني كان ظلّي الذي يسير معي .. عبثاً حاولت الإمساك به .. كان يبتعد كلما اقتربتِ فيأخذني التعب فأنام مفتوح العينين خوف أن يأتي أبي فلا أراه .. حتى حنان ابنة الخالة خذلتني .. رحلت إلى السماء ولم تقل لي بأنها ستموت .. تأتيني .. كانت الوحيدة التي تكلمني .. تقرأ لي الحمد لله ولكني كنت أحفظ واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً .. تدفعني إلى الكلام والعد على أصابعي .. وتحدثني عن ملوك العرب السندباد له حكاية ، لم يكن في مخزن الغلال .. لم يكن سوى صوت البحر .. عرفته رغم أني لم أر السندباد ركب البحر .. البحر ماء على ماء .. لم أستحمّ .. لم أكن قذراً .. لماذا تُجبريني أن أقبل برازي ؟ .. ابنها مات وهو صغير .. لهذا كانت تحبني .. حنان لم تحبني أنا بل أحبت ابنها الذي مات ..
الأم : تأخذ دور حنان ابنة الخالة
الابن : ركب السندباد البحر .. أخذ معه سفنه .. وأسأل حنان ما السفينة ؟
الأم : إنها سيارة تمشي على البحر
الابن : والسيارة ؟
الأم : صندوق من الحديد
الابن : والصندوق ؟
الأم : أخذ سيفه
الابن : وما السيف ؟
الأم : ومعه الجنود والمدافع
الابن : ما المدافع ؟ وما الجنود ؟
الأم : وصل الشاطئ
الابن : الشاطئ وطن البحر
الأم : ودارت معركة ..
الابن : تضربني .. لماذا يضربون بعضهم من أجل الأرض .. مخزن الغلال كان لي .. تضربني أمي لكي تأخذ مخزن الغلال .. أين سأذهب ؟ البحر كبير .. إذا ما اقترب أحد أرفع يدي خوفاً أن أُضرَب .. لا أحد .. لا لعبة .. أخربش على الجدران حتى أسمع صوتاً .. أركل الجدران حتى أداعبها .. أتقافز مع ثمَرَة البطاطا فأجوع فآكلها .. وحدي .. وبيني وبينك جدار سمكه سمك الإصبع .. عضضت أصابعي لأُسقِط الحائط وأراك … ( الأم تعجز عن أداء دور حنان فتنهار باكية )
المشهــد الســادس
الابن : لا تبكِ .. لا تبكِ من أجل عذاباتي .. ما كنت أتعذّب حينها مثلما الآن ..
(( المشهد التالي مشهد مزدوج إذ أن الابن يحاول أن يلوم نفسه أمامها لكي يبرر لها كرهها له ولكن ينبعث فيها حنينها وحلمها في أن تكون المرأة التي تريد هذا فهي تستذكر مشاهد حبها الأول لـ ويل ))
الابن : لم يكن الذنب ذنبك فلا تشغلي ضميرك بالعذاب .. أنا كنت سيئاً لا أحب .. لم تستطيعي أن تحبيني ..
الأم : آه يا ويل .. لا أعرف كيف أحبك .. أن أحاول أن أرتقي إليك كحلمي ..
الابن : ما كان عليّ أن أولَد وأسبّب لك كلّ هذا العذاب .. أنا سيء كنت أتبوّل تحت السرير .. أكسر الباب حتى أخرج .. كان يجب أن تضربيني مثلما حدث
الأم : أحبك .. أحبك يا ويل .. لكني لا أعرف كيف أحبك .. أنت أكبر مما حلمت به .. لن نفترق .. الموت .. لا موت هناك ما دمت أحبك ..
الابن : وأن كرهتني فأنا أستحقّ هذا .. كنت فاشلاً في أن أجعلك تحبيني وهذا سبب كافٍ لأن تكرهيني .. ليكن ضميرك مرتاحاً .. حين تزوّجك المترجم كنت سعيداً وأن أعدّ لك إفطار الصباح .. يا لها من مهمّة .. إنها أكثر ممّا تمنيته ..
الأم : آه يا ويل .. خدمتك العسكرية ستنتهي وتعود إلى أمريكا .. وأنا ؟ سأذهب .. لِمَ لا آتي معك .. إلى مشيغان .. سأعيش في مزرعتك الرائعة .. الليلة .. ليلة الوداع .. ستأتي في العام القادم لتأخذني .. سيكون عمري حينذاك أربع عشر سنة .. الليلة .. نعم سوف آتي لأودّعك ..
الابن : بصقتُ في قهوتكِ حتى تتّحد روحانا .. غرست دبّوساً في إصبعي ووضعت قطرة دم في القهوة الفائرة حتى نصبح اخوة في الدم ونتزوّج مثل الهنود .. بنيت لك بيتاً من الرمال فوق الشاطيء حتى تتركي المترجم وتسكنيه لوحدك ..
الأم : ربـّاه .. أبدو صغيرة .. في الثالثة عشر .. يجب أن أبدو أكبر .. آه .. أين قلم الشفاه الذي كان لماما ؟ أنا متأكدة من أنني انتشلته من صندوق القمامة .. سأعطّر أنفاسي بورق وسأوسع حدقتي عيني بقطرات الليمون .. وسأدعك أسناني بفحم الخشب المسحوق وإذا ما أخذت حقيبة ماما وحذاءها دون أن تدري فسوف أبدو امرأة .. امرأة حقيقية .. أنا قادمة .. أنا امرأة كاملة يا ويل ..
الابن : كنت أعرف أنّكِ تزوّجتِ لتتخلّصي من عذاب أهلك وتوقفي العار عند سدّ الماضي .. ومن أجل نقوده أيضاً .. كنت أُميته .. أقتله في خيالي وأقتل نفسي معه لترتاحي منّا جميعاً وتصبحي سعيدة .. كنت أتألم حين أستيقظ في الصباح وأرى نفسي تتنفّس .. كم كنت خائباً وما زلت
الأم : سأشتاق إلى العراق .. لكنني سأكتب لهم كلّ يوم .. آه .. هاأنا ذا جميلة .. أصلح أن أكون في أيّ مكان من أمريكا .. أه أصعب هذا يا ويل .. أن يكون يومك هنا هو اليوم الأخير .. نعم أعرف أنك ستعود العام القادم .. ولكن من ذا يستطيع أن يصبّرني عاماً على فراق أنفاسي ؟ وأنا أخاف أن أقتل .. لأني أحبك ..
الابن : فشلي هو الذي دفعك دفعاً .. كنتِ تصرخين بالمترجم .. لا أريده هنا لا أستطيع التنفس وهو هنا .. حاولَ المسكين إبقائي .. ولكنك منعتِ عنه كلّ ما يمكن أن تمنحه المرأة لزوجها .. ذهبت إلى غرفة أخرى .. إلى سرير آخر ..
الأم : آه يا ويل .. حذاء ماما يعيقني عن الطيران للقياك .. ويل ... ويل .. ماذا تفعل يا ويل ؟ أنت سكران .. لا تشرب .. لا تشرب يا ويل .. لا يا ويل لا تجبرني .. أنا لا أشرب ( تختنق )
الابن : وأرسلتِني إلى المصح .. مصح عقلي يفقد المرء فيه عقله .. ما من أحد هناك إلاّ وكان عدوّاً .. لا أحد .. ليزا .. ليزا الوحيدة التي أشفقت عليّ وعانقتني
الأم : ويل .. ابتعد عنّي .. اتركني ويل .. لماذا تصفّـر .. أصدقاؤك .. ابتعدوا .. أنا .. ابتعدوا ..
الابن : كانت مجنونة .. لو لم تكن مجنونة ما عانقتني .. جنونها دفعها إلى أن تحبني .. آه .. حين عانقتها كنت أتمناك مكانها .. ( يلمس أمه .. تجفل .. تصرخ )
الأم : لا تلمسني أيّها السافل .. لست سوى مغتصب حقير ..
الابن : لست مجنوناً فلماذا تحجزونني في المصح .. ؟
المشــهد السابــع
(( الأم تصبح عدائية وكأنها مسؤولة المصح ))
الأم : لم تكن تستحق المصح والمصاريف التي أنفقناها عليك .. كان من الأجدر بنا أن نودعك مستشفى المجانين وننتهي من أمرك
الابن : لن أذهب
الأم : بل ستذهب
الابن : أنت تغارين مني لأنّ أمّي أجمل منك وأنت رئيسة ممرضات في مصحّ كلّه مرضى ومجانين .. أنت مجنونة مثلهم .. تغارين لأنّ أمّي جميلة وأنا عاقل
الأم : أمّك ؟ أيّها السافل لا أمّ لك .. لم تأتِ أمك لزيارتك منذ رموك هنا .. لست سوى عار لا أب لك
الابن : أمّي قالت أنّ أبي .. أمريـ .. المترجم سعيد
الأم : في كلّ الأحوال أنت ملطّخ بالوحل
الابن : أريد أن اخرج من هنا
الأم : سنفعل .. سأتركك .. الليلة ليلة عيد .. وغداً صباحاً ستأتي سيارة الإسعاف لتأخذك
الابن : البيت
الأم : بل مستشفى المجانين
الابن : لن أذهب
الأم : المر غير مرهون بإرادتك
الابن : الليلة عيد
الأم : كلّهم جاءوا لرؤية أبنائهم .. وأنت حتى عزرائيل نساك
الابن : أرسلت لأمّي عقداً من المحـّار ستفرح به .. ستأتي ..
الأم : ستسبقها سيارة الإسعاف حين تأتي لن تعرفها ..
الابن : بل أعرفها .. هي .. إنها .. أنت ِ ..
الأم : لست بأمّك ..
الابن : وأنت ؟
الأم : كنت مجرّد حادث .. لم أخترك .. لست بأمك ..
الابن : وأنت ؟
الأم : ما عدت أنـا من يوم جئت
الابن : أنت تلاحقينني
الأم : متى ؟
الابن : في قلبي .. كلّ نبضة .. أنت تهرّبين نفسك مع دمي .. كتبت لك رسالة
الأم : لا تعنيني
الابن : كتبت لنفسي رسالة .. لم أستطع أن أقرأها .. أردت أن أُتلف ما أعددته .. أقتل حواسّي .. العينان لا أرى .. اليدان لا أحس .. الفم .. لا .. الأنف .. كنت أريد أن أكون عاجزاً حتى أجبرك بالحب أو الرحمة أو الشفقة أو الواجب .. بواحدة من كلّ هذا أن تنظري إليّ باهتمام .. لكنني كنت أخشاك أكثر من العجز ..
الأم : تخشاني ؟
الابن : نعم .. حلم لقياك أجمل من رؤيتك ، أنت تعذّبينني حدّ الجنون ..
الأم : وأنت تعذّبني حدّ الجنون
الابن : لماذا إذاً لم تكوني معي هناك في المصح ؟ كلّنا مجانين .. من أجل هذا لم أحتمل المصح .. أحرقته وهربت .. دخلتُ الدار وأنت غائبة .. قتلت المترجم سعيد وحصلت على النقود
الأم : أنت سرقتها
الابن : سعيد كان ضحية
الأم : الضحايا لا يخلّفون إلاّ ضحايا
الابن : لم يكن ابنك .. ما هو إلاّ خطيئة
الأم : كلّ الذين أعرفهم خطيئتي .. نحن أولاد القهر .. أطفاله نحن الآن هنا ..
الابن : نحن هنا بسفينة جانحة محمّلة بلعب الأطفال
الأم : ما كنّا أطفالاً قط .. أعطني النقود .. عليّ أن أغادر العراق .. هذا خلاصي الوحيد
الابن : وأنا ؟
الأم : أنا أمّك ستغادر معي
الابن : تزوّجت المترجم سعيد من أجل نقوده
الأم : بل حتى يصبح أباك
الابن : أبي البحر .. أبي المارينز .. أبي ثلاثة بوارج كلهم دخلوا إلى ميناءك .. هذه العبّارة وطننا .. الماء بيتنا وقبرنا ..
الأم : أين النقود .. دلّني عليها .. وسأفعل كلّ ما تريد
الابن : هل أُغتصبتِ في سجن ( أبو غريب )
الأم بألم : ليتني كنت هناك .. ( تستدرك ) في أي مكان من العبّارة تخفي النقود ( تفتّش ، فتنكسر إحدى الخشبات وهي تدوس عليها ، تصرخ فزعة ، يسرع إليها ويحتضنها ويبعدها عن المكان الذي كانت تقف عليه .. يبقى جامداً للحظات ، تكاد تنهار مستندة على كتفه ، تنتبه لنفسها ، تبعده بخشونة ، يسقط متألّماً ويتكوّر )
الأم : أنت نهاية العذراء ، نهاية الآمال البريئة ، أعرف لا ذنب لك .. ولا أنا .. أنت ثمرة مرّة أغصّ بها .. ولا أستطيع التنفس .. ما دمت هنا في العراق
الابن : لهذا بعتي والمترجم سعيد كلّ شيء وأردتما السفر وتركي وحدي
الأم : لا .. كنـّا ..
الابن باهتياج : تكذبين وأعرف أنك تكذبين .. سنوات وأنا أسكن هذه العبّارة ولم تزورينني قط .. كنت في الليل أطوف حول البيت .. من النافذة كنت أهمس أمي وأنت تجلسين قرب المدفأة تشاهدين التلفاز وهو يجلس قربك يقرأ ويقبّلك بين الحين والآخر
الأم : كنت تتجسّس علينا .. ألهذا قتلته ؟
الابن : كنت في البرد وأمّي المدفأة تحيك الصوف لدرأ الشتاء عن مَنْ كان أبي في الأوراق .. أيّ وحدة كانت تمزّق أضلاعي ليدخل إلى قلبي الثلج .. كنت أريد أن أموت ولكن ليس قبل أن أراك .. وأحتظنك قبل أن أدفن في الماء ( نسمع صوت تكسّر الخشب )
الأم : سأفعل ما تريد .. العبّارة ستغرق .. فقط دلّني على النقود وسنغادر معاً
الابن : عرفت أنّك ستأتين من أجل النقود .. اشتريت ما استطعت من ألعاب ( ينثر الكثير من الألعاب التي لا تناسب امرأة وبعضها ألعاب بنات ) سنلعب معاً .. فأنت أيضاً غادرتِ الطفولة منذ زمن الـ ..
الأم : سنلعب .. سنمرح .. أعدك .. ولكن أين النقود .. العبّارة ستغرق
الابن : تكذبين .. إن لم تلعبي معي الآن .. ستغادريني إلى الأبد
الأم : كلانا سنغادر الحياة إلى الأبد إن لم تغادر العبّارة
الابن : نلعب أوّلاً ( نسمع ازدياد تكسّر الخشب وأصوات رصاص وقصف )
الأم بهلع : في وقت آخر ، العبّارة ستغرق ، ستأتي الشرطة والأمريكان ليقبضوا عليك .. سيأخذون النقود .. هيّـا .. قل أين هي وسوف ..
الابن : نلعب الشرطة والحرامية .. ولكن مَنْ الشرطي ومن الحرامي
الأم بغضب : أنت أبن زنى وقاتل وسارق
الابن : إذاً سأكون والدي .. شرطي .. وسألقي القبض عليك
(( يتّجه إليها متّخذاً بجدّية حقيقية دور الذي يحاول اعتقالها ، بخوف حقيقي أيضاً تحاول الهرب منه ، تلجأ إلى أحد أطراف العبّارة يزداد تكسّر الخشب وأصوات الرصاص فجأة ينهار الجزء الذي تقف فوقه وتسقط يركض نحوها ويمسكها .. فلا نرى سوى يديها وهو ممسك بهما ، نسمع صوتها متقطّعاً
الابن بهلع : لا تهربي إلى الماء .. نحن لم نلعب بعد
الأم بصوت متقطّع : إنّي .. إنّي .. أغرق
الابن : أخرجي .. سنلعب قليلاً .. لا .. لن نلعب .. سأعطيك نقودك .. هيـّا .. أخرجي ( لا زال يتشبّث بيديها )
الأم : أكاد .. أختنق .. إنّي ..
الابن بلوعة : أمـ .. أمـ ..
الأم : ماذا .. ماذا تقول
الابن يصرخ بأعلى ما يستطيع : أمّـاه .. أمـّاه
(( يبقى الصوت يتردد عالياً وهو يسقط معها إلى الماء نبقى نسمع صوت أمـّاه مسجّلاً مختلطاً بالنشيد الوطني الأمريكي ))
تمت بعونه تعالى
ملاحظة : ـ لا يسمح بإعداد أو اقتباس النص أو إخراجه بدون موافقة خطيّة من المؤلّف .
لعـرض
مسرحيـــة
العـــرس الوحشـــي
تأليف : فـلاح شاكــر
قصة هذه المسرحية
قبل خمسة عشر عاماً قرأت رواية العرس الوحشي ليان كفلك وأخذتني في دوامة من الألم والغصة .. فاستوحيت منها هذه المسرحية .. وكنت أتهيأ لإخراجها حين بدأت حرب 1991 .. بعدها ما أن أهمّ بقراءتها حتى ينتابني ألم لا أستطيع مقاومته .. حاول الفنان محمود أبو العباس إخراجها .. لكن الظروف لم تسمح أن ترى النور .. وفقدت النص كما هي عادتي .. إذ أنّ أغلب نصوصي لا أمتلك نسخة منها إلى أن بدأت زوجتي تأرشف وتحاول جمع ما تستطيع من نصوص وأنا دائماً ضدّ النشر .. لأسباب موضوعية وخاصة أمّا الآن وقد اختنقت العروض المسرحية في العراق فإني مضطر إلى النشر لأقول كلمتي .. بعدها عرفت أن المسرحية أخرجت في المغرب الشقيق .. ولم أشاهدها .. رغم استلامي لحقوقي المادية .. لم أستطع الحصول على نسخة من المسرحية ثم قرأت أنّها عرضت باللغة العربية في السويد وبعدها قام المخرج السويدي بإخراجها بعد ترجمتها .. توجد دراسة رائعة للمقارنة بين العرضين للدكتور حسن السوداني منشورة في جريدة مسرحيون التي تصدر في السويد ورغم استلامي حقوقي المادية أيضاً لم أحصل على نسخة من النص .. وأخيراً أراد الفنان أحمد حسن موسى إخراج العمل ومنه عرفت أنّ أحد الطلبة في كلية الفنون الجميلة قدمها اطروحة تخرج .. لكنه للسف غادر العراق .. واستمر بحث الفنان احمد إلى أن حصل لي على نسخة من النص غير مكتملة .. واعدت قراءته .. ولم أغير منه الكثير .. رغم أنه يمكن أن يتطور أكثر .. لكن أحببت أن يبقى بنفس روحيته الأولى ولم أفعل سوى أن غيّرت بعض المفردات والجمل التي كانت تدلّ على أن الأحداث تدور في فرنسا وجعلت البيئة عراقية خاصة أن المخرج السويدي فعل هذا في الإخراج . وها أنا أنشر النص .. وأشك .. وبعض الشك فضيلة .. أن يرى هذا العمل النور في عراقنا الجميل في ذاكرتنا وإرادتنا رغم كل ما يحدث يومياً
فـلاح شاكـر
المشهــد الأول
الأحداث تدور في عبّارة نقل نهري متضرّرة راسية على أحد ضفاف دجلة
الابن : تكذبين
الأم : من أجلك أنا هنا
الابن : تكذبين
الأم : لماذا لا تصدقني ؟ أتيت من أجلك
الابن : تكذبين
الأم : أنا هنا .. ألا تراني
الابن : تكذبين
الأم : يا إلهي .. ألا تصدق وجودي قربك ؟
الابن : تكذبين
الأم : تُكذّب نيتي ؟ ربما تستطيع ذلك لكنك لا يمكن أن تُكذّب حضوري .. هل يمكنك أن تنكر أني هنا ؟
الابن : تكذبين
الأم : أنت تصيبني بالصداع
الابن : أحبك ..
الأم : آه .. وأنا أيضاً .. هيا بنا نغادر هذا المكان
الابن : أحبك ..
الأم : اسمع يا صغيري .. هذه السفينة الغارقة المهجورة .. ربما تجنح في أية لحظة .. هيا بنا نغادرها ..
الأم : لنغادر السفينة أولاً .. وحين نكون في أمان تستطيع أن تتحدث عن عواطفك كما تريد .. هيا بنا ..
الابن : أحبك
الأم : لماذا لا تتحرك ؟ لماذا تريدنا أن نموت ؟ ألا تحب أن نحيا معاً ؟
الابن : أحب البعوض
الأم : ماذا ؟!
الابن : لسْعَتـَهُ جعلتني أشعر بيدي ..
الأم : الحشرات هنا كثيرة .. ستمرض من لسعة حشرة ما …
الابن : إنها لا تتركني وحدي ..
الأم : مَـنْ ؟
الابن : تلسعني .. تعانقني ..
الأم : الحشرات ؟!
الابن : أحبها ..
الأم : يجب أن أنقذك .. لنغادر
الابن : تريدين النقود ؟!
الأم : لنخرج أولاً .. ثمّ ..
الابن : جئت من أجل أن أدُلـّك على النقود
الأم : بل من أجل إنقاذك ..
الابن : تنقذينني من أجل النقود ..
الأم : كلاّ .. بل لأني أمك
الابن : لا لأنك تحبيني .. بل لأنك أمي
الأم : بل لأني .. لأني .. هنا ..
الابن : أنت لا تحبيني .. تريدين النقود
الأم : ليس من أجل النقود أنا هنا
الابن : لنحرقها ..
الأم : ماذا ؟
الأم : لنحرق النقود حتى تكوني هنا من أجلي ..
الأم : تحرق النقود ؟ تحرق كل ما خرجت به من هذه الدنيا ؟
الابن : حتى تكوني هنا من أجلي
الأم : من أجل هذا فقط ؟ هل ثمة عاقل يحرق ثروة طائلة من أجل فكرة كهذه ؟
الابن : كنتم دائماً تعاملونني على أني مجنون .. فلماذا تريدون مني الآن أن أكون عاقلاً ؟
الأم : لم تكن مجنوناً .. كدت تصيبني بالجنون .. وها أنت ستفقدني عقلي مرة أخرى
الابن : أنت لا تحبينني
الأم : عدنا ثانية إلى هذرك ..
الابن : إنك لم تنظري في عينَيَّ قط ..
الأم : عيناك ..
الابن : كنت أمي ولم تنظري في عينَيَّ ..
الأم : كنت أمك .. ؟
الابن : سأعطيك نقودك كلها إذا نظرتِ إلى عيني بحنان مرة واحدة
الأم ( بجزع ) : أنظر في عينيك ؟
الابن : دقيقة واحدة فتعود لك كل نقودك
الأم : لا أستطيع .. أنا
الابن : كنت أمي ولا تستطيعين أن تنظري إلي .. لا تكوني أمي .. انظري إلي من أجل نقودك
الأم : لا أستطيع
الابن : نقودك .. ( يطمع الأم )
الأم : محاولة لأن أنهض من موتي ..
الابن : انظري لعيني ..
الأم : سيقتلني .. أن
الابن : نقودك
الأم : تدلّني على مكانها ..؟
الابن : لم أكذب قط
الأم : لا تنظر إلي الآن .. ليس من أجل النقود .. ربما لأجلها .. آه .. عليّ أن أواجه ما يرعبني .. آه .. لون عينيك لم أنتبه إليه قط .. !
المشهـد الثـانــي
(( في هذا المشهد تبدأ الأم بالنظر إليه تدريجياً .. تبدأ بأظافره .. مروراً باليد ثم الكتف فالرقبة والفم وصولاً إلى عينيه .. وحين تراهما .. ( تصرخ ) وتنتابها حالة الهستيريا .. تستحضر الآن مشهد اغتصابها كاملاً .. إنها لا تستعيده كجزء من الماضي .. بل كأن الاغتصاب يحدث الآن .. ))
الأم : ويل .. لا .. لا ويل كذبت عليّ .. لا يا ويل لن تجعلني مومس .. لازلت صغيرة .. ليس ثلاثتكم .. ليس ثلاثتكم …
(( تبصق .. تصفع .. صفعة وهمية .. ترفع من الأرض ثم تلقى .. تصرخ .. تضرب عدة ضربات .. على الممثلة إن استطاعت ومن دون أن يشعر الجمهور بحركتها وكأنها تدافع عن نفسها .. أن تضع فوق وجهها وفوق ملابسها دم .. كأن الضرب حقيقي ))
(( الجمهور هو الذي يتوهم غياب المغتصبين الثلاثة .. تبقى تقاوم لكنها تنهار .. يغمى عليها .. تبقى ساكنة رغم أنها تسمع من حولها لهاث .. كأنها جثة كل حين تتخذ وضعاً مغايراً كأن يداً وهمية تحرّكها .. لحظات صمت طويلة .. يتحرك الابن باتجاهها .. يحاول إيقاضها من غيبوبتها ))
الابن : جميلة .. جننتِ ؟ جننتِ أم توهّمتِ جنونك .. لستِ راحلة إلى السماء .. ما زلتِ فوق الأرض تتنفسين ..
(( يدنو برأسه من صدرها محاولاً أن يعرف تتنفس أم لا .. تصحو .. تراه .. تجفل .. تصفعه بقوة ))
الأم : لا تلمسني أيّها الأمريكي القذر
الابن : جميلة أنا عراقي من صلب أمريكي
الأم : لست كذلك .. أنت ابنهم .. ثلاثتهم …
الابن : وأنتِ ؟
الأم : أنا حادثة
الابن : أمي
الأم : لا أمّ لك
الابن : البحر ..
الأم : ربما البحر أمك .. انهم جنود البحرية الأمريكية يضاجعون البحر ببوارجهم ، حورية البحر أو جنّية تلك التي رمتك في بطني لتتخلص من عارها
الابن : شعرك البحر ..
الأم : ماذا ؟!
الابن : أمي البحر .. وشعرك البحر ..
الأم : غرقت منذ زمن بعيد .. حينما جئت أنت متُّ أنا ..
الابن : كنت في بطنك .. تقيـّأتني للخارج .. لم تحبيني .. لِمَ تقيـّأتني للخارج ؟ اتركيني أتعفـّن هناك .. لماذا ؟ لماذا لا تحبينني ؟
الأم : لم تكن إلاّ ثمرة عذاب ظالم .. فهل هناك مَنْ يحبّ ظلماً وعذاباً أنَّ تحت وطأته ..
الابن : قطع الحطاب شجرة .. لماذا يـُقتـَل العصفور الذي حمَـَلَتـْه ؟
الأم : أعرف .. لا ذنب لك .. لكن ما عساي أن أفعل ؟ لم أستطع أن أكون أمك .. كنت عذاباً يمزّق أحشائي .. صرت آلاماً في رحمي تطيل لحظة عذاب الاغتصاب حتى الأبد
الابن : أنَخْنقْ العصفور لأنه سيكشف عن بشاعة الحطاب أم نقتله لأنه يفضح سكوت الشجرة عن قطعها ؟
الأم : لا قوة لي أمام فؤوس أيديهم .. ثلاثة أمام طفلة في الثالثة عشر .. طفلة تنفخ في ثيابها حتى تشابه حلم المرأة الذي حلمته .. كلاّ .. لم أستطع أن أحبك .. لا ذنب لك ولا ذنب لي .. لم أكن قادرة على حبك .. هذه كلّ أسبـابي
الابن : لماذا تركتني أخرج من خطيئتهم إلى عذابك ؟
الأم : وهل أردتك أن تخرج ؟
الابن : لم أولَدْ بإرادتي ..
الأم : ( تصرخ ) ولا بإرادتي .. كان حملك اغتصاب ثان .. بل أشدّ عذاباً وشعوراً بالخزي ( تتكلم بسرعة وألم ) كانت حركتك في بطني تدفع بي إلى الجنون .. ربطت نفسي بالسوط حتى أخنقك .. شددت السوط حتى غامت عيناي وغبت عن نفسي .. وضعت كل ثقل خلقه الله فوق بطني .. تشقلبت .. رميت نفسي مرّات ومرّات من فوق السرير إلى الأرض .. بطني تكاد تتمزّق من صلابة الأرض وأسناني تصطك من الألم والغضب .. لكنك رغم هذا تشبّثت بي .. لم تمت .. كنت تتعمّد البقاء حتى يكون الألم والفضيحة والعار والعذاب كاملاً ..
الابن : وأتيت ..
الأم : فذهبت عنّي طفولتي بمجيئك .. وجدت نفسي امرأة عجوز تحمل عارها وعذابها
الابن : كنت عذابك
الأم : وعاري ..
الابن : وأنت ؟
الأم : وأنا ماذا ؟
الابن : وأنا ماذا ؟
الأم : ماذا تقصد ؟
الابن : عذابي .. جنوني .. من كانا ؟
الأم : تقصد من مَنْ ؟
الابن : لم تكوني السبب في عذابي وجنوني ..؟
الأم : نعم لم أكن ..
الابن : لم تكوني لأنك أنت عذابي وجنوني ..
الأم : نحن ضحايا .. والضحايا لا يملكون اختياراً ..
الابن : كنت ضحيتكِ
الأم : وأنا ضحيتهم
الابن : مَنْ أبي .. ؟
الأم : جلاّدنا ..
الابن : ومنْ جلاّدنا ؟
الأم : أبوك
الابن : أريد شفقة
الأم : أنا في خيبة وعذاب لا أستطيع فيها أن أشفق حتى على نفسي ؟؟
الابن : ( يرقد ) لماذا لا تريدين شفقتي عليك إذاً ؟
الأم : أنت تكذب ..
الابن : نعم أكذب .. لم أشفق عليكِ لأني أحبك ..
الأم : ليتك تكرهني وتغيب .. ربما أنسى ما حدث .. لكنك تشبّثتَ بي متوسّلاً إليّ بحبك فأجنّ .. كلّما شعرت بحبك .. شعرت بألم اغتصاب جديد .. فهل تدرك مقدار ما يسببه حبّك لي من عذاب ومهانة ..؟
الابن : أهناك حُب مُهين ؟
الأم : نعم .. حين نحب دون كبرياء
الابن : لكنّي مجنون أفعل ما يحلو لي .. ألست مجنوناً ؟
الأم : ليتك كنت فأرحتني
الابن : أكنتُ عاقلاً ؟
الأم : ليتك كنت فأرحت نفسك
الابن : وأنتِ ؟
الأم : كسوف قمر في النهار .. أردتك مجنوناً حتى أكرهك لأنك مجنون لا لأنك ثمرة خطيئتهم ..
الابن : لستُ بمجنون ؟
الأم : ما كان لأمٍّ مهما كان الأب ألاّ تحبّ ابنها إلاّ إذا كان فيه عيب يبرّر كرهه ..
الابن : عاقل ؟
الأم : أضفيت عليك الجنون فلم تعد عاقلاً ..
الابن : ولا مجنون
الأم : بين جنونك وعقلك ضاع ضميري
الابن : سأبيعه لكِ
الأم : ضميري ؟
الابن : ليلةً كوني أمي .. ستشترينه ببضع ساعات
الأم : يا له من ضمير رخيص ذاك الذي أشتريه بتوبة بضع ساعات ..
المشهــد الثالــث
(( الابن يدخن ))
الأم : أنت لم تدخّن من قبل
الابن : لا أدخّن .. ولا أشتهي أن أدخّن .. ولكني ما دمت أستطيع فلماذا لا أفعل ؟ ربّما مَرَضي .. سعالي .. يلفت انتباهك إليّ ولو لحظة .. ربّما أشفقتِ عليّ .. لا أستطيع أن أطلب الحب من ضحية .. لكني أمنح نفسي الحق أن أطلب منها شفقة على ضحية أتعس منها .. الشفقة ربما توهمني بالحب .. وهذا الوهم يكفيني
الأم : سعيد مَنْ يستطيع أن يتبنّى وهماً ويصدّقه
الابن : أنا لا أعرفك
الأم : ماذا ؟
الابن : أنت لا تعرفينني
الأم : كيف ؟
الابن : أليس من الممكن إنقاذ إنسان يغرق حتى لو لم نكن نعرفه ..
الأم : هلاّ أنقذت نفسي أولاً
الابن : لنبـدأ
الأم : بمـاذا
الابن : بالنسيان
الأم : أنا الذكرى نفسها
الابن : آه .. الأم : ماذا بك ؟
الابن : أنا ضائع .. أبحث عن أهلي .. هل من الممكن أن تدلّيني على شارع الرشيد ؟
الأم : ما هذا ؟
الابن : هكذا سنبدأ .. نلتقي غرباء
الأم : غرباء ؟
الابن : ربما نحب بعضنا إذا نسينا مَنْ نكون
الأم : هذا جنون
الابن : وأيّ عقل في أن تكره أمُّ ابنها ؟
الأم : لست أمّك
الابن : غرباء إذاً .. أنا ضائع .. أبحث عن أهلي .. هل من الممكن أن تدلّيني على شارع الرشيد .. ومن هناك سوق …
الأم : انه .. انه ..
الابن : فهمت أشكرك جداً .. آسف لأني أخذت من وقتك
الأم : الوقت طويل .. رغم هذا فقد ضاق عذابي
الابن : ما زلتِ صغيرة وعذراً إذا ما أطلت الحديث .. فنحن المراهقون نعشق عادةً من هنّ في سِنّ أمّهاتنا ..
الأم : هل أمك في مثل عمري ؟
الابن : بل أنتِ أكبر منها قليلاً .. لكنك أجمل
الأم : شكراً
الابن : هل لديك أولاد ؟ ( الأم تجفل ) حَزَرْتْ .. لم تتزوجي بعد .. ليس مهمّاً هذا .. الكثير من النساء لا يتزوّجن ، وهذا أفضل .. لأنكِ من الممكن أن تحبّي أيّ طفل وكأنه ابنك .. بينما لو كنت متزوّجة ..
الأم : أنـا ..
الابن : حينئذ ستحبّين طفلك أكثر من كلّ أطفال العالم .. وهذه أنانية .. منتهى الأنانية أن تحبّي ابنك أكثر من العالم .. من أجل هذا فالزواج مؤلم للضمير .. كل أطفال العالم أبناؤك الذين تحبين ..
الأم : كلـهن ..؟
الابن : أنا أحدهم .. اسمي .. اسمي ..
الأم : لا لست ..
الابن : اسمي فريد
الأم : اسم جميل
الابن : وماما تدلّعني وتسمّيني فردة
الأم : فردة ؟
الابن : فردة حذاء !! ( يضحكان بصخب )
الأم : أنت ذكي
الابن : لكنّي لست جميل
الأم : مَنْ قال هذا ؟ يا صغيري على العكس .. أنت .. أنت جميل ..
الابن : حقّـاً ؟ لماذا لا يحبّونني إذاً ؟
الأم : مَنْ يجرؤ على ألاّ يحبك ؟
الابن : تقولينها حقيقة ؟!
الأم : نعم .. فأنا .. فأنا .. ( تصرخ الأم خارجة عن اللعبة ) أنا لا أستطيع .. لا أستطيع .. لا أستطيع أن أحبك حتى وهماً ..
الابن : ( يصرخ ) لكنّي أحبكِ
الأم : تحبني ؟ أنت لم تقل لي ماما أبداً
الابن : ماذا ؟
الأم : قل ماما ( يحاول أن يقول ماما وبجهد رهيب يصرخ )
الابن : ماذا ؟!
الأم : لماذا لا تقلها ؟
الابن : لأنكِ لم تلعبي معي قط
الأم : ألعب معك ؟ أنا وأنت لم نكن في يوم ما أطفال قط .. نحن ضحايا .. والضحايا تغادرها البراءة ..
الابن : العبي معي
الأم : لا تكن سخيفاً
الابن : سأقولها .. سأعطيكِ نقودك
الأم : لا أستطيع
الابن : ( يغمض عينيه ) أين أنتِ ؟ .. أين أنت ؟.. ( يصطدم بها ) لماذا لا تخبـّئي نفسك ؟
الأم : وأين هي حتى أخبـّئها ؟
الابن : إنها هنا ..
الأم : أين ؟
الابن : ( يشير إلى أرجوحة ) في الأرجوحة
الأم : سقطت منذ زمن طويل
الابن : بل طارت .. إنها هنا .. هنا .. ( يأخذ أمّه ويركبها الأرجوحة )
الأم : أخاف .. أخاف .. ويحك اتركني
الابن : ( ضاحكاً ) ستعتادينها .. لا .. لا تخافي .. بل استمتعي ..
الأم : إني أطير .. أطير
الابن : خذيني معك
الأم : تعال .. تعال ( يتأرجحان معاً .. تتوقف الأرجوحة .. ينام في حجرها )
المشهـد الرابــع
الأم : ( تغني له ) نام ستكبر يوماً .. لا تنسى طفولتك .. نام .. ستكبر يوماً وتزوّجك أمك .. ( تبتعد بفزع ) ويل .. ويل .. ستغتصب .. ابتعد .. ابتعد عنّي .. يا للّحظة الغادرة .. يا لها من مشقّة أن تنسى للحظة كلّ أحزانك .. لا أريد أن أنسى آلامي ( بألم ) ولكن هذا مستحيل .. لو فرحت بالنسيان لحظة كبرت آلامي سنوات .. ليس من حقّي أن أنسى .. أنا مستباحة للجنون ..
(( تتقدم نحوه بهستيريا وهو يستسلم لها دون مقاومة )) ابتعد .. ابتعدي عنّي أيّتها الذكرى الأبدية .. يا شقائي .. ابتعد .. اذهب .. اذهب من نفسي .. غادر أنفاسي وإلاّ اختنقت برائحتك الكريهة .. رائحة الويسكي المعجون بالدم .. رائحة الضوء الأصفر المتأرجح فوق ملابسي الممزّقة .. ( ترى عينيه الجاحظتين .. تتركه وتهرب فزعة ) آه .. عيناك لا تغادرني .. عيناه .. عيناك تسكنان عقلي الخرف ..
الابن : ( بصوت متحشرج وألم ) لِمَ لم تكملي .. ؟
الأم : لا جدوى
الابن : عاجزة أن تكوني جلاّداً .. إعتدتي أن تكوني ضحيّة ..
الأم : لا جدوى .. لا جدوى .. حتى وإن رغبت فعاري يسبح في دمي .. إنّ خيبتي أبديّة
الابن : أنت ربما أخطأتِ .. إستغفلتي .. أمّا أنا فلم يستغفلني أحد حتى تُبَرَّر كلّ الخيبة التي أنا فيها ..
الأم : كفاني ضحية .. غب عنّي .. غب عني حتى أحاول مرة أخرى
الابن : لا أستطيع .. أحبك ..
الأم : لا تطلب حباً من إنسان أُقتُلِعَ قلبه ومات
الابن :ظـلْ
الأم : الشجرة ماتت أوراقها .. غادرها ربيع الحلم .. إذا قُتـِلَ حلم البيت داخل المرأة فإنها ستكون مستباحة .. وحينئذ العالم كلّه حتى السموات لا يمكن أن تكون بيتاً صالحاً لها ..
الابن : وهم بيت
الأم : الموتى لا يؤمنون بالوهم .. ميتة
الابن : مَنْ ؟
الأم : أنـا
الابن : وأنت .. ؟
الأم : أنـا ..
الابن : وماتت حاجتك إلى النقود ؟
الأم : تلك ستعيد إليّ حياتي .. إنها ثمن ما بعت ..
الابن : ومَنْ اشترى ؟
الأم : ذاك الذي دفع ..
الابن : بِكَم ْ أستطيع أن أشتريكِ ؟
الأم : ويحك ؟ أنا أمّك ..
الابن : اشتراكِ لكي تكوني زوجة له .. وأريد أن أشتريكِ حتى تصبحي أمّي ..
الأم : لا أملك ما ترغب أن تشتريه
الابن : إذاً فأنتِ لا تملكين شيئاً
الأم : أنا أمك ..
الابن : بـكم ؟
الأم : بظلمهم وخطيئتهم
الابن : ذلك ثمن بخس ..
الأم : ماذا تريد ؟
الابن : أن تشتريني ولـداً
الأم : لا أملك ..
الابن : أنا لا أساوي شيئاً
الأم : أنا لا أملك هذا الذي لا يساوي
الابن : لا تريدين
الأم : وإذا أردت لا أستطيع
الابن : تريدين نقودك ؟
الأم : نعم
الابن : سأبيعها لك ..
الأم : تبيعها ؟
الابن : بعذاباتي
الأم : عذاباتك
الابن : ما سمتيـه لي من عذاب تأخذينـه منّي
الأم : آخذه ؟
الابن : بعتـي أيّاماً كثيرة زوجة لمترجم حتى تحصلي على هذه النقود .. أردّها إليكِ مقابل ليلة واحدة
الأم : ليلة واحدة ..؟
الابن : تتعذّبين مثلما تعذّبت .. تبكين مثلما بكيت .. أرى في عينيك دموعي فأضحك منها .. أتحرّر من محبّتي لك ..
الأم : تتحرّر ؟
الابن : ليس شرطاً مستحيلاً .. والآن لنبـدأ ..
الأم : كيـف ؟
المشهــد الخامــس
الابن : في مخزن الغلال .. ما أن ولدت حتى حُجزت هناك .. سُجِنت في مخزن الغلال حيث قنينة الحليب باردة جداً أو حارّة جداً .. أردت موتي ..
الأم : إنّهـا …
الابن : أمّكِ التي كرهَتْ عاركِ .. أو أمّي التي كرهت عاري ..
الأم : لمـنْ
الابن : لمن شاؤوا .. سنتان أو ثلاث .. عمر طويل قضيته جاثماً على أنفاس حرّيتك .. تريدين موتي .. حجزتني في مخزن الغلال ( فجأة يصبح عدائياً بشكل كبير )
الابن : ( رغم أنه يقول حواره وكأنه موجّه لنفسه إلاّ أنه يجبرها على أن تتتخذ الأوضاع التي كان يعيشها ، انه يمارس عليها عنفاً لا تستطيع أن تردّه أو تتخلص منه فتطاوعه بخوف وألم .. شيئاً فشيئاً تجتاحها مشاعر الأمومة .. تتعاطف معه ضدّ نفسها .. تؤذي نفسها بحركات تقمّص عالية لحالته .. إنها حركياً تحاول أن تبدو نفسها .. يكاد يكون انتحاراً )
الابن : في مخزن الغلال تعوّدت ظلمته .. وإذا ما تسلَّلَتْ الشمس أخافني ضوءها أذكر خارج المخزن .. كان فرناً كبيراً ذاك الذي أردتِ قذفي فيه .. منعكِ أبوكِ ومنع الخبز عني .. لم يكن يحبني .. أراد موتي لكن الأمريكان كانوا دائماً ضيوف مزرعته … ويخاف العقاب … معاقبتهم أو عقابك … لقد اغتصبك هو أيضا حين اعتقد انهم خلاصه واصدقائه . في مخزن الغلال .. وجبه واحده تأتيني ظهراً … ست سنوات وحدي … احكّ المسمار في الجدران حتى اثقبها وارى أبي … أي شيء يصيبني بالرعب … إذا سال اللعاب على شفتي جفلت … إذا لامست يدي الأخرى صرخت مرعوبا … تأتيني … لا مشاعر … لم تكرهيني ولم تحبيني .. كنت جداراً أو باباً .. أو .. لو كرهتني لفرحت لأني سأكون حيّاً أمامك .. أمّا لو أحببتني .. سأموت فرحاً .. كنت غبية .. أردت لي الموت ولم تهتدي إلى وسيلة .. كان الأمر سهلاً .. لو أردت قتلي حقاً كان يكفيك أن تحبيني قليلاً فتقتليني .. لا شيء هنا في مخزن الغلال .. لاشيء .. مرآة صغيرة لا أرى فيها سوى عيني .. أحببت عيوني لأنها الشيء الوحيد الذي رأيته منّي .. في الشتاء أنام في قعر دولاب ملتحفاً خوفي ومعطفاً عسكرياً قديماً ..
الابن : ما يرعبني كان ظلّي الذي يسير معي .. عبثاً حاولت الإمساك به .. كان يبتعد كلما اقتربتِ فيأخذني التعب فأنام مفتوح العينين خوف أن يأتي أبي فلا أراه .. حتى حنان ابنة الخالة خذلتني .. رحلت إلى السماء ولم تقل لي بأنها ستموت .. تأتيني .. كانت الوحيدة التي تكلمني .. تقرأ لي الحمد لله ولكني كنت أحفظ واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً .. تدفعني إلى الكلام والعد على أصابعي .. وتحدثني عن ملوك العرب السندباد له حكاية ، لم يكن في مخزن الغلال .. لم يكن سوى صوت البحر .. عرفته رغم أني لم أر السندباد ركب البحر .. البحر ماء على ماء .. لم أستحمّ .. لم أكن قذراً .. لماذا تُجبريني أن أقبل برازي ؟ .. ابنها مات وهو صغير .. لهذا كانت تحبني .. حنان لم تحبني أنا بل أحبت ابنها الذي مات ..
الأم : تأخذ دور حنان ابنة الخالة
الابن : ركب السندباد البحر .. أخذ معه سفنه .. وأسأل حنان ما السفينة ؟
الأم : إنها سيارة تمشي على البحر
الابن : والسيارة ؟
الأم : صندوق من الحديد
الابن : والصندوق ؟
الأم : أخذ سيفه
الابن : وما السيف ؟
الأم : ومعه الجنود والمدافع
الابن : ما المدافع ؟ وما الجنود ؟
الأم : وصل الشاطئ
الابن : الشاطئ وطن البحر
الأم : ودارت معركة ..
الابن : تضربني .. لماذا يضربون بعضهم من أجل الأرض .. مخزن الغلال كان لي .. تضربني أمي لكي تأخذ مخزن الغلال .. أين سأذهب ؟ البحر كبير .. إذا ما اقترب أحد أرفع يدي خوفاً أن أُضرَب .. لا أحد .. لا لعبة .. أخربش على الجدران حتى أسمع صوتاً .. أركل الجدران حتى أداعبها .. أتقافز مع ثمَرَة البطاطا فأجوع فآكلها .. وحدي .. وبيني وبينك جدار سمكه سمك الإصبع .. عضضت أصابعي لأُسقِط الحائط وأراك … ( الأم تعجز عن أداء دور حنان فتنهار باكية )
المشهــد الســادس
الابن : لا تبكِ .. لا تبكِ من أجل عذاباتي .. ما كنت أتعذّب حينها مثلما الآن ..
(( المشهد التالي مشهد مزدوج إذ أن الابن يحاول أن يلوم نفسه أمامها لكي يبرر لها كرهها له ولكن ينبعث فيها حنينها وحلمها في أن تكون المرأة التي تريد هذا فهي تستذكر مشاهد حبها الأول لـ ويل ))
الابن : لم يكن الذنب ذنبك فلا تشغلي ضميرك بالعذاب .. أنا كنت سيئاً لا أحب .. لم تستطيعي أن تحبيني ..
الأم : آه يا ويل .. لا أعرف كيف أحبك .. أن أحاول أن أرتقي إليك كحلمي ..
الابن : ما كان عليّ أن أولَد وأسبّب لك كلّ هذا العذاب .. أنا سيء كنت أتبوّل تحت السرير .. أكسر الباب حتى أخرج .. كان يجب أن تضربيني مثلما حدث
الأم : أحبك .. أحبك يا ويل .. لكني لا أعرف كيف أحبك .. أنت أكبر مما حلمت به .. لن نفترق .. الموت .. لا موت هناك ما دمت أحبك ..
الابن : وأن كرهتني فأنا أستحقّ هذا .. كنت فاشلاً في أن أجعلك تحبيني وهذا سبب كافٍ لأن تكرهيني .. ليكن ضميرك مرتاحاً .. حين تزوّجك المترجم كنت سعيداً وأن أعدّ لك إفطار الصباح .. يا لها من مهمّة .. إنها أكثر ممّا تمنيته ..
الأم : آه يا ويل .. خدمتك العسكرية ستنتهي وتعود إلى أمريكا .. وأنا ؟ سأذهب .. لِمَ لا آتي معك .. إلى مشيغان .. سأعيش في مزرعتك الرائعة .. الليلة .. ليلة الوداع .. ستأتي في العام القادم لتأخذني .. سيكون عمري حينذاك أربع عشر سنة .. الليلة .. نعم سوف آتي لأودّعك ..
الابن : بصقتُ في قهوتكِ حتى تتّحد روحانا .. غرست دبّوساً في إصبعي ووضعت قطرة دم في القهوة الفائرة حتى نصبح اخوة في الدم ونتزوّج مثل الهنود .. بنيت لك بيتاً من الرمال فوق الشاطيء حتى تتركي المترجم وتسكنيه لوحدك ..
الأم : ربـّاه .. أبدو صغيرة .. في الثالثة عشر .. يجب أن أبدو أكبر .. آه .. أين قلم الشفاه الذي كان لماما ؟ أنا متأكدة من أنني انتشلته من صندوق القمامة .. سأعطّر أنفاسي بورق وسأوسع حدقتي عيني بقطرات الليمون .. وسأدعك أسناني بفحم الخشب المسحوق وإذا ما أخذت حقيبة ماما وحذاءها دون أن تدري فسوف أبدو امرأة .. امرأة حقيقية .. أنا قادمة .. أنا امرأة كاملة يا ويل ..
الابن : كنت أعرف أنّكِ تزوّجتِ لتتخلّصي من عذاب أهلك وتوقفي العار عند سدّ الماضي .. ومن أجل نقوده أيضاً .. كنت أُميته .. أقتله في خيالي وأقتل نفسي معه لترتاحي منّا جميعاً وتصبحي سعيدة .. كنت أتألم حين أستيقظ في الصباح وأرى نفسي تتنفّس .. كم كنت خائباً وما زلت
الأم : سأشتاق إلى العراق .. لكنني سأكتب لهم كلّ يوم .. آه .. هاأنا ذا جميلة .. أصلح أن أكون في أيّ مكان من أمريكا .. أه أصعب هذا يا ويل .. أن يكون يومك هنا هو اليوم الأخير .. نعم أعرف أنك ستعود العام القادم .. ولكن من ذا يستطيع أن يصبّرني عاماً على فراق أنفاسي ؟ وأنا أخاف أن أقتل .. لأني أحبك ..
الابن : فشلي هو الذي دفعك دفعاً .. كنتِ تصرخين بالمترجم .. لا أريده هنا لا أستطيع التنفس وهو هنا .. حاولَ المسكين إبقائي .. ولكنك منعتِ عنه كلّ ما يمكن أن تمنحه المرأة لزوجها .. ذهبت إلى غرفة أخرى .. إلى سرير آخر ..
الأم : آه يا ويل .. حذاء ماما يعيقني عن الطيران للقياك .. ويل ... ويل .. ماذا تفعل يا ويل ؟ أنت سكران .. لا تشرب .. لا تشرب يا ويل .. لا يا ويل لا تجبرني .. أنا لا أشرب ( تختنق )
الابن : وأرسلتِني إلى المصح .. مصح عقلي يفقد المرء فيه عقله .. ما من أحد هناك إلاّ وكان عدوّاً .. لا أحد .. ليزا .. ليزا الوحيدة التي أشفقت عليّ وعانقتني
الأم : ويل .. ابتعد عنّي .. اتركني ويل .. لماذا تصفّـر .. أصدقاؤك .. ابتعدوا .. أنا .. ابتعدوا ..
الابن : كانت مجنونة .. لو لم تكن مجنونة ما عانقتني .. جنونها دفعها إلى أن تحبني .. آه .. حين عانقتها كنت أتمناك مكانها .. ( يلمس أمه .. تجفل .. تصرخ )
الأم : لا تلمسني أيّها السافل .. لست سوى مغتصب حقير ..
الابن : لست مجنوناً فلماذا تحجزونني في المصح .. ؟
المشــهد السابــع
(( الأم تصبح عدائية وكأنها مسؤولة المصح ))
الأم : لم تكن تستحق المصح والمصاريف التي أنفقناها عليك .. كان من الأجدر بنا أن نودعك مستشفى المجانين وننتهي من أمرك
الابن : لن أذهب
الأم : بل ستذهب
الابن : أنت تغارين مني لأنّ أمّي أجمل منك وأنت رئيسة ممرضات في مصحّ كلّه مرضى ومجانين .. أنت مجنونة مثلهم .. تغارين لأنّ أمّي جميلة وأنا عاقل
الأم : أمّك ؟ أيّها السافل لا أمّ لك .. لم تأتِ أمك لزيارتك منذ رموك هنا .. لست سوى عار لا أب لك
الابن : أمّي قالت أنّ أبي .. أمريـ .. المترجم سعيد
الأم : في كلّ الأحوال أنت ملطّخ بالوحل
الابن : أريد أن اخرج من هنا
الأم : سنفعل .. سأتركك .. الليلة ليلة عيد .. وغداً صباحاً ستأتي سيارة الإسعاف لتأخذك
الابن : البيت
الأم : بل مستشفى المجانين
الابن : لن أذهب
الأم : المر غير مرهون بإرادتك
الابن : الليلة عيد
الأم : كلّهم جاءوا لرؤية أبنائهم .. وأنت حتى عزرائيل نساك
الابن : أرسلت لأمّي عقداً من المحـّار ستفرح به .. ستأتي ..
الأم : ستسبقها سيارة الإسعاف حين تأتي لن تعرفها ..
الابن : بل أعرفها .. هي .. إنها .. أنت ِ ..
الأم : لست بأمّك ..
الابن : وأنت ؟
الأم : كنت مجرّد حادث .. لم أخترك .. لست بأمك ..
الابن : وأنت ؟
الأم : ما عدت أنـا من يوم جئت
الابن : أنت تلاحقينني
الأم : متى ؟
الابن : في قلبي .. كلّ نبضة .. أنت تهرّبين نفسك مع دمي .. كتبت لك رسالة
الأم : لا تعنيني
الابن : كتبت لنفسي رسالة .. لم أستطع أن أقرأها .. أردت أن أُتلف ما أعددته .. أقتل حواسّي .. العينان لا أرى .. اليدان لا أحس .. الفم .. لا .. الأنف .. كنت أريد أن أكون عاجزاً حتى أجبرك بالحب أو الرحمة أو الشفقة أو الواجب .. بواحدة من كلّ هذا أن تنظري إليّ باهتمام .. لكنني كنت أخشاك أكثر من العجز ..
الأم : تخشاني ؟
الابن : نعم .. حلم لقياك أجمل من رؤيتك ، أنت تعذّبينني حدّ الجنون ..
الأم : وأنت تعذّبني حدّ الجنون
الابن : لماذا إذاً لم تكوني معي هناك في المصح ؟ كلّنا مجانين .. من أجل هذا لم أحتمل المصح .. أحرقته وهربت .. دخلتُ الدار وأنت غائبة .. قتلت المترجم سعيد وحصلت على النقود
الأم : أنت سرقتها
الابن : سعيد كان ضحية
الأم : الضحايا لا يخلّفون إلاّ ضحايا
الابن : لم يكن ابنك .. ما هو إلاّ خطيئة
الأم : كلّ الذين أعرفهم خطيئتي .. نحن أولاد القهر .. أطفاله نحن الآن هنا ..
الابن : نحن هنا بسفينة جانحة محمّلة بلعب الأطفال
الأم : ما كنّا أطفالاً قط .. أعطني النقود .. عليّ أن أغادر العراق .. هذا خلاصي الوحيد
الابن : وأنا ؟
الأم : أنا أمّك ستغادر معي
الابن : تزوّجت المترجم سعيد من أجل نقوده
الأم : بل حتى يصبح أباك
الابن : أبي البحر .. أبي المارينز .. أبي ثلاثة بوارج كلهم دخلوا إلى ميناءك .. هذه العبّارة وطننا .. الماء بيتنا وقبرنا ..
الأم : أين النقود .. دلّني عليها .. وسأفعل كلّ ما تريد
الابن : هل أُغتصبتِ في سجن ( أبو غريب )
الأم بألم : ليتني كنت هناك .. ( تستدرك ) في أي مكان من العبّارة تخفي النقود ( تفتّش ، فتنكسر إحدى الخشبات وهي تدوس عليها ، تصرخ فزعة ، يسرع إليها ويحتضنها ويبعدها عن المكان الذي كانت تقف عليه .. يبقى جامداً للحظات ، تكاد تنهار مستندة على كتفه ، تنتبه لنفسها ، تبعده بخشونة ، يسقط متألّماً ويتكوّر )
الأم : أنت نهاية العذراء ، نهاية الآمال البريئة ، أعرف لا ذنب لك .. ولا أنا .. أنت ثمرة مرّة أغصّ بها .. ولا أستطيع التنفس .. ما دمت هنا في العراق
الابن : لهذا بعتي والمترجم سعيد كلّ شيء وأردتما السفر وتركي وحدي
الأم : لا .. كنـّا ..
الابن باهتياج : تكذبين وأعرف أنك تكذبين .. سنوات وأنا أسكن هذه العبّارة ولم تزورينني قط .. كنت في الليل أطوف حول البيت .. من النافذة كنت أهمس أمي وأنت تجلسين قرب المدفأة تشاهدين التلفاز وهو يجلس قربك يقرأ ويقبّلك بين الحين والآخر
الأم : كنت تتجسّس علينا .. ألهذا قتلته ؟
الابن : كنت في البرد وأمّي المدفأة تحيك الصوف لدرأ الشتاء عن مَنْ كان أبي في الأوراق .. أيّ وحدة كانت تمزّق أضلاعي ليدخل إلى قلبي الثلج .. كنت أريد أن أموت ولكن ليس قبل أن أراك .. وأحتظنك قبل أن أدفن في الماء ( نسمع صوت تكسّر الخشب )
الأم : سأفعل ما تريد .. العبّارة ستغرق .. فقط دلّني على النقود وسنغادر معاً
الابن : عرفت أنّك ستأتين من أجل النقود .. اشتريت ما استطعت من ألعاب ( ينثر الكثير من الألعاب التي لا تناسب امرأة وبعضها ألعاب بنات ) سنلعب معاً .. فأنت أيضاً غادرتِ الطفولة منذ زمن الـ ..
الأم : سنلعب .. سنمرح .. أعدك .. ولكن أين النقود .. العبّارة ستغرق
الابن : تكذبين .. إن لم تلعبي معي الآن .. ستغادريني إلى الأبد
الأم : كلانا سنغادر الحياة إلى الأبد إن لم تغادر العبّارة
الابن : نلعب أوّلاً ( نسمع ازدياد تكسّر الخشب وأصوات رصاص وقصف )
الأم بهلع : في وقت آخر ، العبّارة ستغرق ، ستأتي الشرطة والأمريكان ليقبضوا عليك .. سيأخذون النقود .. هيّـا .. قل أين هي وسوف ..
الابن : نلعب الشرطة والحرامية .. ولكن مَنْ الشرطي ومن الحرامي
الأم بغضب : أنت أبن زنى وقاتل وسارق
الابن : إذاً سأكون والدي .. شرطي .. وسألقي القبض عليك
(( يتّجه إليها متّخذاً بجدّية حقيقية دور الذي يحاول اعتقالها ، بخوف حقيقي أيضاً تحاول الهرب منه ، تلجأ إلى أحد أطراف العبّارة يزداد تكسّر الخشب وأصوات الرصاص فجأة ينهار الجزء الذي تقف فوقه وتسقط يركض نحوها ويمسكها .. فلا نرى سوى يديها وهو ممسك بهما ، نسمع صوتها متقطّعاً
الابن بهلع : لا تهربي إلى الماء .. نحن لم نلعب بعد
الأم بصوت متقطّع : إنّي .. إنّي .. أغرق
الابن : أخرجي .. سنلعب قليلاً .. لا .. لن نلعب .. سأعطيك نقودك .. هيـّا .. أخرجي ( لا زال يتشبّث بيديها )
الأم : أكاد .. أختنق .. إنّي ..
الابن بلوعة : أمـ .. أمـ ..
الأم : ماذا .. ماذا تقول
الابن يصرخ بأعلى ما يستطيع : أمّـاه .. أمـّاه
(( يبقى الصوت يتردد عالياً وهو يسقط معها إلى الماء نبقى نسمع صوت أمـّاه مسجّلاً مختلطاً بالنشيد الوطني الأمريكي ))
تمت بعونه تعالى
ملاحظة : ـ لا يسمح بإعداد أو اقتباس النص أو إخراجه بدون موافقة خطيّة من المؤلّف .
--------------------------------------------
المصدر : الحوار المتمدن
0 تعليقات