مجلة الفنون المسرحية
صورة الحداثة وما بعد الحداثة في المسرح العالمي
*كارموس خيل تامورا
في البدء كانت الأسئلة، ثم جاءت الشكوك. ففي عالم المسرح الذي أتحرك فيه نجد أن نظام الإنتاج أصبح محور الحياة المسرحية. ربما انتصرت خيارات ما بعد الحداثة وإطار علاقة الإبداع المسرحي والمشاهد اقتصادي لكن مع وجود عنصر تشويه للنظريات الليبرالية الجديدة، فمعظم المباني التي تشهد التمثيل تقريباً ملكية عامة. وفي مواجهتها يقف المشرفون ذوو الانتماءات المختلفة الذين يخدمون في النهاية مصالح السياسي الذي وضعهم في هذا المكان. ويقوم بذلك على أساس حساب النتائج. ونسبة الإشغال هي في الوقت الراهن مقياس قيم الأعمال المسرحية. هذه التأملات التي تبدو هامشية أثارها تحويل الصورة التي يمكن الاحتفاظ بها من المسرح الحديث أوما بعد الحديث الى كلمات، عندما يكون المسرح الذي يتم دخوله قائماً في مجال خارج التاريخ لكن بسبب الغموض وليس لقرار. إذا قابلنا أن المسرح الحديث من مردر Merdre لألفريد جاري Alfred Jarry، حتى مسرح برتولد برشت، فيمكن فهم وجود أمكنة مثل أسبانيا حيث مرت هذه العملية دون أن يشعر بها أحد تقريباً. الآن نجد أنهم من أقطاب الكتابة المسرحية كتاب مثل غارثيا لوركا أو بايي إنكلان Valle Inclan، لكنهم في زمانهم عاصروا التوجه التقليدي المحافظ لدى الجمهور البرجوازي وكان عليهم أن يكتبوا أعمالاً أقل مخاطرة في الشكل والمضمون من أجل إرضاء أصحاب المسارح.
جاءت بعد ذلك فترة مظلمة استمرت أربعين عاماً حيث عاد المسرح يأخذ طابع حدث اجتماعي وسياسي. كان هناك مسرح شائع ومسرح ينقب في المصادر القائمة في أمكنة أخرى عن محاولته أن يكون في الحداثة. غير أن الوسائل كانت قليلة، وكان تأثيرها أقل لأنها كانت تتم في السر، خوفاً من القمع الشرطي. ومراقبة بشعة. في هذا السياق أدركنا نحن الشباب، بشكل جزئي، ما كان يحدث في نقاط أخرى وتعلمنا تيارات، أساليب، مفاهيم: قمنا بالتنظير بطريقة لم يفعلها أحد حول برتولد بريشت، لكننا لم نتمكن من مشاهدة عروض لنصوص له ذات أشكال مختلفة كي نكوّن فكرة واقعية مما كان عليه ذلك المسرح الذي دهشنا في ترجماته وتشكيلاته. كما نقرأ كل ما كان يقع بين أيدينا لكن بطريقة غير منظمة وكان ينقل لنا انطباعات فقط.
وصلنا متأخرين
وصلنا متأخرين الى كل شيء. عندما كنا نفهم شيئاً من الإبعاد، وصلتنا أفكار غروتوفسكي (حتى أشكاله الأكثر مادية)، ولكن في الوقت الذي كان يبدو لنا فيه رائعاً جعلنا عبث يونسكو وبيكت منه شعاراً، ربما كان ذلك عدم إمكانية اختراقه. كنا نعيش حياة مسرحية ثلاثية. الحياة اليومية، الحياة التي كانت تتجسد في العروض، الحياة التي كنا نريد أن نخترعها والحياة التي كانت تصلنا من الخارج، مثل الأفكار المتنورة التي كنا نفك رموزها من خلال الرسائل والصور.
كان زمن التحولات وعرفنا Living Theatre مباشراً وحياً، وقام ناقد من المدينة بكتابة “مسرح صعاليك لصعاليك”، في حين أن المهزلة الشعبية ذات الفصل الواحد والكوميديات كانت تحقق نجاحات على مستوى النقد وشباك التذاكر. وصلت أعمال أجنبية قليلة، وكان علينا أن ننظم رحلات جماعية الى نانسي Nancy التي تحولت الى مصدر وحينا وإلهامنا المسرحيين، وهناك اكتشفنا، دون أن نعد لذلك، “الفرسان الثلاثة” حسب رواية وإخراج روجية بلانشون Roger Planchon، إنتاج تياترو ليبير دي روما، الفرقة التي شاهدنا لها في مرحلة تالية عرض “أولاندو غاضباً” للوكا رانكوني في ملعب رياضي تم تحويله الى مسرح متحرك ومتغير بسبب الحركة، بتحريك الجمهور عبر دهليز من المشاهد والمسارح.
وبهذه القطع من حداثة مسرحية ما، الى جانب “المغنية الصلعاء”، التي شوهدت في شارع هوشيت في باريس Huchette أو أعمال المقهى المسرحي لرينيه أوبلاديا Rene Obladia، على سبيل الإشارة فقط، أعمال لا تزال خالدة اليوم في ذاكرتي كنقاط تمكنت من خلالها من تكوين فكرة أولية، أساسية عما كنا نفهمه، بأن نفهمه بأنه ينتمي الى الحداثة في تلك الأزمنة. حدث هذا بينما كنت أعيش في مدينة فيها آثار تنتمي الى الحداثة في الفن والمعمار وتعد نموذجية.
يجب أن نضع في هذا السياق مؤلفين واقعيين إسباناً مثل الفونصو ساستري Alfonoso Sastre وأنطونيو بوير باييخو Antonio Buero Vallejo اللذين تغلبا على الكثير من الصعاب، وتمكنا من مشاهدة أعمالهما معروضة ويشكلان نوعاً عن الدليل لمسرح احتمالي، مرتبط بالواقعية دائماً. الباقي كان عبارة عن قفز، ولم يقم الجدل، في أية حال من الأحوال، كزمن تاريخي، بل كوظيفة الالتزام او استمرار، كلاهما في الوقت نفسه. عدنا لنصطدم بنظم الإنتاج كعنصر مخفف للاهتمام الضئيل بالتنظير أو بالبحث، مرتبط بطريقة احتمالية بعالم الجامعة ودائماً كمبادرة شخصية لمتعصب للمسرح.
باروكي
لا يمكن أن ننسى فرانشيسكو نييا Francisco Nieva الشاعر والناثر الذي وصل من باريس يحمل مسرحاً بصرياً للغاية، باروكي، كان خارج نطاق المدارس المسرحية وربما كان أول إشارة لبعد حداثة غير مشكلة. رسام وسينوغرافي، ففي البداية كانت أعماله المشهدية، وعلى وجه الخصوص سينوغرافيا Marat – Sade لبيتر فايس Peter Weis أحد الأعمال المهمة لفهم تغيير في المسارح الإسبانية، المتناغمة مع الأزمنة التاريخية الحقيقية ترجمة ألفونصو ساستري وإخراج أدلفو مارسيياك Adolfo Marsillach وتمثل نقطة فارقة في تشكيل إمكانية التوصل الى جماليات أكثر التزاماً. تتخلى عن المعتاد وتفتح طرقاً أمام تجديد مسرحي، وفي هذه الحاالة انطلاقاً من المبادرة الخاصة، دون مساعدة أو معونة رسمية. هذا الإخراج العظيم انتهى بإلغاء العمل نظراً لحدث سياسي خاص بالنظام الديكتاتوري.
كان استرداد الديموقراطية قد أدى الى محاولة استرداد السنوات الضائعة في مجال الفنون المسرحية. وبصفة عامة تم اختيار نموذج من وسط أوروبا ينتمي الى فترة الخمسينيات والستينيات. مراكز درامية، وحداث إنتاج مؤسسية من خلال مساعدات للإبداعات الأكثر أهمية للفرق الخاصة. وفي ذلك الوقت كان شيء يلفت النظر. في هذا السياق أتذكر عملاً لأليثيا ألونصو Alicia Alonco في القصر الوطني في برشلونة عام 1976، كان رائعاً.
ولكن قبل ذلك كان قد تم استرداد كل القدرة الإبداعية لفابيا بوغثيربير Puigcerver Fabia الذي اقترح سينوغرافيات كانت استوديو مسرحياً حقيقياً يقوم على فضاء، والى جانب بيكتور Victor Garcia ونوريا إسبيرت Nuria Espert قدموا لنا العروض الأكثر أهمية في مطلع الستينيات بدأ بمسرحية “الخامات”، ثم يرما (Yerma) لغارثيا لوركا وانتهى بمسرحية لبايي إنكلان Valle inclan. وهي عروض لا تنسى بسبب جرأتها الشكلية، والتزامها الجمالي، وما كان يطلب من الممثلين وللقراءة، الحديثة أو ما بعد الحديثة؟ لهذه الأعمال التي تمثل نقطة فارقة لفهم وصول الأجواء الجديدة تماشياً مع الأزمنة المعاصرة. بينما كانت هناك الأعمال المتوهجة لفرقة إليس جو غلارس Els Joglars التي كانت طريقة لفهم المسرح غير المكتوب. وفي هذا الإطار نشير الى عملها الخالد ماري دوس Mary D’ous، سينوغرافيا ياغو بيريكوت التي منحت العمل مناخاً فيه إيعاز وأهمية، وعملها “كيخو Queijo” عندما تحول الفلامنكو الى مادة درامية وتعبيرات جمالية شعبية في خدمة الطبقات الفقيرة في إقليم قطالونيا Catalunya حيث التلاقي بين شاعر هو سلبادور إسبرو Salvador Eapriu ومسرحي ومخرج مثل ريكارد سلبات Ricard Salvat كانت النتيجة عروضاً مهمة، وعلى وجه الخصوص “طريق موت سينيرا” أحد الأعمال المميزة للمسرح القطالوني، لاستخدام اللغة القطالونية مسرحياً بشكل غير تقليدي، ومحاولة تطبيق جمالية تتصل بالتيارات الأكثر عصرية في المسرح الأوروبي.
إيماء
كما ظهر في الساحة فرقة Comediants التي بدأت من عمل إيمائي، من مدرسة جاك لوكو Jacques Lecoq، واستطاعت الانصهار مع تقليد البحر المتوسط الخاص بالاحتفال وتمكنت من إضفاء حيوية على المسرح في الشارع كمكان للاحتفال من منطق التقاليد. وفي عام 1977 التقت هذه الفرقة الإسبانية مع أعضاء الفرقة الأميركية Bread and Puppet تحت قيادة بيتر شومان Peter Schman، فكانت تجربة حياة، التزاماً جمالياً، وكذلك التقاء الشارع كمكان لعروضها، ولكن انطلاقاً من وجهة نظر سياسية بحتة، شكوى واتخاذ موقف من الأحداث السياسية والاجتماعية التي كانت تحدث
وذات يوم استيقظنا لنجد أنفسنا بعد حداثيين، أو في ما بعد الحداثة، وهنا يكمن قلب النزاع لأنني لا أتذكر أحداً، لا مؤلفاً ولا مخرجاً ولا حتى رجل أعمال في عالم المسرح أعلن أنه ممارس لمسرح ما بعد الحداثة إذا نظرنا على مستوى النقد الى هذا المسلم الذي كان له حضوره في الأدب والفنون التشكيلية، قبل الفنون المسرحية بكثير ومع الانطباع بأننا في حضوره في الأدب والفنون التشكيلية، قبل الفنون المسرحية بكثير ومع الانطباع بأننا في الكثير من الأحوال نستولي على كلمة دون أن نشير الى أخريات كثيرات نحن غير قادرين على فهمها واليوم على ضوء مفاهيم علم الاجتماع أو الفلسفة، يمكن وضع حد بين مرحلة وأخرى، فإنني أشعر بالعجز عن التوصل الى هذه الحدود وفي الكثير من الحالات أقع في التناقضات التي لا يمكن أن تكون فقط نتاج عجزي، بل بسبب غموض المفهوم المطبق على الفنون المسرحية.
في سنة 1981 أسعدني الحظ في تنظيم دورة مهرجان مسرح بيتوريا ـ غاستيث Gasteiz – Vitoria حيث افتتحت العروض بمسرحية “ميديا” Medea، إخراج لويس باسكوال Luis Pasqual وتمثيل الممثلة نوريا إسبيرت Nuria، واختتمت بعرض للاديسلاو فيالكا Ladislao Fialka وكان بينهما عرض “ويلبول، ويلبول” Wielopole Wielopole لتاديوس كانتو، و(Flowers) لليندسي كمب Lindsay Kemp، و”أنتيغونا” لليفينغ ثيتر، وعلى رأسهم جوليان بيك Julian Beck، فرقة الرقص موميكس Momix، بين فرق أخرى، مع مشاركة عارضة لفرقة سويسرية تعمل في مجال مسرح Punk ربما كان في هذا البرنامج تلخيصاً لمرحلة طويلة من التيارات التي تعد حديثة كان بمثابة موجز، نهاية أو وداع لأهواء وشعريات كانت قد تركت أثرها في الكثير من المبدعين.
ما بعد الطليعة
منذ ذلك الحين يمكن الكشف عن علامات جلية لتيار يهدف الى تنظيف الشحوم من محتويات الإخراج، وتنظيف الكلمة من الشوائب، ليصبح النص المخرج مجرد عنصر لا أكثر في الخطاب المسرحي، كي تبقى فقط بنية وتطورات عرضية في بداية الثمانينيات كانت هناك حركة إيطالية يطلق عليها “ما بعد الطليعة Transvanguardia” كانت في تعبيرها المسرحي تشخيصاً لحدث مسرحي، جوانب من بنية لم تكن تستند الى محتويات، ولا حكايات وكل شيء كان عبارة عن وصمات مشهدية، في حفل اختفاء الإنسان كفاعل للسرد وضياع أي التزام أبعد من علم الجمال، في بعض المرات غاية الشبه بصناعة الألعاب النارية، لا يوجد ما يساعد على التفكير.
ربما كان الرقص حيث شوهدت الحركات والقفزات أكثر وضوحاً إذا كان الرقص المعاصر قد طور لغات جسدية أكثر وذات تعبير أوسع، فقد خلق في الوقت نفسه نواة لتيارات أخرى فرضت سرعتها ونفعيتها، قادتنا الى “قليل هو أكثر”، ما يترك الرقص الحالي خالياً من أي كتابة تتعلق بفن الرقص لوضع الجسد في حركة كمجرد حدث عرضي، يعيش في فضاء كي يلتقي بطاقات وليس مع مصير أو حدث.
هذه الطريقة القائمة على تجريد المسرح أو الرقص من أهم أشكال تعبيره، أضعف ما هو معقول، ما يمكن أن يبثه النص، الذي يتقلص في الكثير من الحالات الى صيغة تعجب متكررة، أو يستخدم كصوت وليس كغذاء للأفكار الفلسفية التي تقف وراء التمثيل، كل العمل، ربما تكون أحد الأدلة للكشف بطريقة ما الاقتراب من مسرح ما بعد الحداثة.
وجود الأجهزة السمعية البصرية على الخشبة، خاصة منذ وصول الفيديو، حل، بطريقة مبالغ في تكرارها، محل عمليات الحذف أو إثارة المشاعر، من أجل الحصول على توضيحات أو الأزمنة الأخيرة على تداخل هو في الواقع يطرح أسئلة على جوهر المسرح نفسه، ومن أجل اللعب مع آلة يمكنها أن تكرر صوراً الى ما لا نهاية، لكسر قدرة المسرح على أن يكون زائلاً لأنه يحث في زمن وفي مكان دون إمكانية نظرية للتكرار.
لقد بولغ في تقويم الفيديو على المسرح وكان بمثابة قطيعة سردية الأمر الذي يقربه أكثر من ظاهرة جماهيرية لما بعد الحداثة مثل التفزيون التناص الممكن بين المسرح والتلفزيون كان أحد المعالم التي زادت من ترسيخ فكرة ما بعد الحداثة للإخراج في بعض المناسبات تمت محاولة كسر التناقض المطلق الموجود بين اللغتين ويخلق مجالاً درامياً، غير ممكن تنسيقه دون تصادمات اليوم، وللأسف، نجد أن الفيديو في المسرح أصبح تقليداً ويعززه في ذلك التلفزيون الفيديو ـ كليب وحفلات موسيقى البوب، مثل البلاتوهات التلفزيونية حيث تقوم شاشات التلفزيون بتكرار الصور أو تقدم أخرى، لتشكل الديكور.
المسيرة كانت مثيرة للتفكيك، تفكيك كل ما هو مسرحي في جوهره، ليحل محله خليط عناصر متفرقة، وأحياناً بالصدفة، لا تتجمع في النهاية بل في مناسبات تسبب الرفض وهذا حملنا الى جمالية الخراب، الى عدمية، حيث ما هو إيمائي يكتسب تقييماً، بشرط أن يكون منتجاً بابداع القواعد القانونية للخطاب الجمالي القائم.
لأن المسارات التكاملية للتيارات المسرحية الجديدة طويلة وغير متساوية، مع الأخذ في الاعتبار الوقت الطويل الذي يستغرقه الجمهور في تقبلها بشكل معقول، لكن الصفوة المبدعة نجد أن الصيغ، التراجعات، مراجعات التيارات والتركيب في ما هو متغير الطبيعة، يبدو أن يسرى بسرعة غير معتادة إلا أنني لا أريد أن أبدو كأنني مضاد لما بعد الحداثة ربما يكلفني التخلي عن البنيوية التي تصاحبني وأصدر أحكاماً عن ثقة كبيرة، ولكن ضمن مجموعة واسعة من الاقتراحات التي ازدهرت في ما بعد حداثة الفنون المشهدية، فلا أحد يدري قادر على أن ينفي ما مثلته من كسر لبعض المحرمات أعمال روبرت ويلسون Robert Wilson، وهو ينتمي الى ما بعد الحداثة لكنه يبدو لي أحياناً حداثوياً بلا عقد.
فرقة لافورا ديلس باوس Fura Dels Baus أقامت خطاباً ما بعد حداثوي، شديد الوحشية، يلامس أحياناً ملامح أكثر تسلطية في التصرف الإنساني ليس كشيء خسيس بل كنتيجة لمنطق مواجهة جماليتها الطنانة، ذات العلامات الواضحة التي تنتمي الى ما بعد الثورة الصناعية، ربما ضمن خداع لنتائج مثيرة، لكنها تركت لنا صوراً قوية من الناحية المسرحية، هذا على الرغم من أن تطورها اللاحق حملها الى تكرار صيغ، لكن يطغى عليها دائماً العنصر المادي، للجهاز أو لأجهزة الفيديو التفاعلية كجزء من الكتابة المسرحية نفسها وكانت تجاربها هي التي تمادت لتصل الى حافة المستحيل إنها مرجعية أساسية لمسرح إيمائي.
فلنعد الى نظم الإنتاج والسوق. في لحظة ما بدأ إنشاء مهرجانات في أرجاء المعمورة كافة كانت سوقاً دولية جديدة، تتطلب عروضاً لجماليات جريئة، ذات نص قليل، كي لا تتعرض لمشاكل لغوية وأسلوب رسمي جداً، الأمر الذي يمكن أن تعتبره دوافع السوق لإنشاء فرق، مبدعين ونماذج عروض كان يمكنهم أن يقوموا بجولاتهم الدولية ناقلين فكرة ما بعد حداثوية للفن. بعض المبدعين حملوا مقترحاتهم، أدلتهم، لكن جاء بعدهم مقلدوهم، أي المبالغون لما بعد الحداثة الذين شذبوا محتويات الفنون المشهدية لتعاني من هزال أيديولوجي وبالتالي جمالي، كان يقترب كل يوم أكثر من العرض الذي كونه للتسلية فقط.
ربما نحن في زمن ما بعد الحداثة. وقد يصل الحداثيون الجدد، لكن المسارح تراكم عليها تناقضات، فك شفرات، إعادة اختراع. الجمهور تمثل لغات بعيدة عن المسرح، أسوأ من تضمنها قيمة تتعلق بعلم الاجتماع وتشكل جزءاً من الخيال الجماعي. بقاعات، مقطوعات، قطع، قطيعة مع الخطاب الأمامي، المذهب الطبيعي أو الواقعي المبالغ فيه، في هروبها من الأداء الجائز وصلت الى الأداء السفلي، وتتغذى من فكرة يصعب استيعابها، المتعلق بما هو “قليل هو أكثر”، إذ قد يخدم كتدريب ميتاتياتري ـ مسرحي داخل مسرحي ـ ولكن لوضع المسرح في مكان الاتصال، والفن والمشاركة، الذي ينتمي إليه من الضروري أن يبدأ من تقليدية ما.
فردية
لأننا يمكننا أن نؤكد أن غالبية العروض في السنوات الأخيرة تقوم على فردية شرسة، على نظرة قاسية للفرد في المجتمع، على عدوان مستمر من الخارج. نظرات ربما قليلة في طابعها الاجتماعي، لكنها في هذه اللحظات تؤدي الى إبداعات تقوم على هذا الهيكل العظمي البنيوي تصل الى أعمال ذات جودة وتستطيع نقل أحاسيس. أعني بهذه المدرسة الأرجنتينية الأخيرة، دانييل بيرونيسي Veronese Daniel، ريكاردو بارتيس، داولتي، رافائيل سبرجلبيورغ، مع حالة غير اعتيادية مثل حالة ريكاردو غرسيا Ricardo Garcia، مؤلف ومخرج أصبح بمثابة معبود في فرنسا، ويُعد خليفة الكاتب المسرحي الفرنسي الراحل كولتيس KOLTES.
انني أجد في الكتابة الدرامية في السنوات الأخيرة، مع المدرسة العظيمة التي نشأت الى يد خوسيه سانشيس سينيستيرا Jose Sanchos Sinistierra، جيلاً حقيقياً يكتب انطلاقاً من توجهات أقل اتباعاً لأرسطو، لكنهم يؤثرون كثيراً في المناخ وفي الأشخاص، ويقتربون دائماً من الأحداث انطلاقاً من مسرحة جلية، ملتزمة، ويمكنهم أن يتمكنوا من إبداع زمن جديد في المسارح. سنواصل مراقبة كل ما يحد فمما لا شك فيه أن السنوات الأخيرة وحرباً عالمية متخفية ستؤدي الى ظهور أخلاقيات وجماليات جديدة تتماشى مع القلق الذي عمّ الكون.
ربما يكون هذا مثالاً لمداخلة تنتمي الى ما بعد الحداثة. كل شيء فيها يقوم على التجربة، قليلة في إشاراتها، مثل محاولة الهرب من أي بلاغة. لقد حاولت الحديث عمّا رأيته، لأننا سندافع دائماً عن أن المسرح ليس فقط نصاً ولا نظرية، بل ممارسة، وأن الحدث المسرحي هو الوحيد الذي يمكن فهمه كعمل فني كامل يكتمل بنظرة الآخر، المشاهد. وانطلاقاً من وجهة النظر هذه فإن الفنون المشهدية وجدت في الفيديو عُدة جيدة، خادعة في بعض الحالات، من أجل معرفة تاريخه الكامل، ليس فقط الجزء المسرود أو المكتوب.
وفي رأيي أنه انطلاقاً من الشكوك نفسها من الطبيعي ألا توجد تقريباً مراجع حول مسرح ما بعد الحداثة، فلا يوجد أحد تقريباً اهتم بدراسته كظاهرة كونية، بل كتيار مبهم في إطار مسار تاريخي حيث الليبرالية الجديدة، الرأسمالية الأكثر وحشية قامت بقيادة المجتمع الغربي ووجدت فنانين خدومين ومفكرين حاولوا العثور على تبرير فكري وجمالي. أعتقد أنهم حققوا ذلك، لكن ليس بصورة كاملة، على أي حال ما حاولت التوصل إليه في الحد الأدنى من أجل إظهار الجوهر، أدى الى طرح الكثير من الأسئلة، بعضها تم إيجاد الإجابة عنه لأن مما لا شك فيه أن تهجين اللغات يحول الخطاب الى خطاب راجح.
*باحث اسباني
نوقشت هذه الورقة في الندوة الفكرية التي عقدت على هامش مهرجان المسرح التجريبي في القاهرة تحت عنوان “المسرح في زمن ما بعد الحداثة”
0 تعليقات