نساء يمسرحن التاريخ المحجوب: ليلى سليمان في تجربة رائدة

مجلة الفنون المسرحية

«دخل جنود الجيش الإنكليزي البيت عصراً. سألتهم حماتي: هل نحضر لكم بعض الأوز؟ لكنهم ردوا: زج زج». هذا اللفظ الذي أشار به جنود الاستعمار لفعل الاغتصاب الذي اقترفوه بحق نساء قرية نزلة الشوبك، صار عنواناً لعرض ليلى سليمان الجديد الهادف إلى إشراك الجمهور في إعادة قراءة تاريخ مصر الذي طواه النسيان

دينا قابيل
القاهرة | لم يكن جديداً على المخرجة المصرية ليلى سليمان اللجوء إلى المسرح التوثيقي كإطار لعروضها واهتمامها بالتأريخ البديل وتطور علاقة الفرد بالسلطة عبر التاريخ.

هذا هو المنحى الذي اتخذته في معظم أعمالها منذ بداياتها في 2004 حين اختارت المسرح المستقل الذي يحفر في الوعي السياسي والاجتماعي، وحصلت على ماجستير في المسرح من هولندا، واتخذت من اتجاه «مسرح ما بعد الدراما» أسلوباً لها، وركزت أعمالها في السنوات الأخيرة على المسرح الوثائقي الذي يعقد علاقة تفاعلية بين الماضي والحاضر، ولا يكف عن طرح أسئلة الحاضر الملحة.
لكن الجديد هو اكتشافها في كل مرة لوثيقة مهمة، تنفض عنها الغبار، وتجعلنا ننظر لذواتنا في مرآة التاريخ ونسعى لفهم حقيقة ما حدث في الماضي عله يقودنا إلى تغيير مآل الحاضر. عرض «زج زج» (أداء نادية أمين، منى هلا، ريم حجاب، زينب مجدي، نانسي منير، وجمعت الباحثة الإنكليزية كاترين هولز المادة التاريخية بالتعاون مع المخرجة) الذي قدِّم أخيراً في «جمعية النهضة العلمية» التابعة للجيزويت في القاهرة، يكشف عن شجاعة مجموعة من النساء المصريات القرويات. في 30 و 31 آذار (مارس) 1919، قدمت أولئك النسوة بلاغات ضد الجنود الإنكليز، واتهمنهم باغتصابهن وتحمّلن في سبيل ذلك مهانة المثول أمام محكمة المستعمر البريطاني العسكرية، واهتزاز صورتهن اجتماعياً في ثقافة الريف التقليدية الصارمة.
وجدت ليلى سليمان الوثائق الخاصة بواقعة قرية «نزلة الشوبك» أثناء عملها في عرضها المسرحي السابق «هوى الحرية» وبحثها في أرشيف وزارة الخارجية البريطانية. هكذا، قرّرت أن تخصّص لقصة القرية عرضاً مستقلاً يزعزع الصورة التي ترسخت عبر التاريخ للمرأة الريفية الخاضعة، السلبية، ويزلزل أفكارنا المسبقة عن انخراط نساء المدينة فقط وطبقتها الوسطى في فعل الثورة، متناسين نساء القرية الباسلات. يأتي عرض «زج زج»، على لسان إحدى الباحثات في الأرشيف (ريم حجاب) في لهجة لا تخلو من تهكم، ترثي حال السجلات المفقودة وخاصة التحقيقات التي اعتمدت عليها سليمان كمادة درامية أساسية في «زج زج»: «مديرية أمن الجيزة اختارت في الستينات يوم 30 مارس ليكون العيد القومي لمحافظة الجيزة، واكتفت بوضع لوحة شرف تحمل أسماء السيدات ضحايا الاغتصاب، ولكن سرعان ما تم نسيان كل شيء».
نرى في بداية العرض طاولات مكتبية صغيرة تجلس خلفها أربع سيدات تنخرط كل واحدة منهن في البحث في وثائق نزلة الشوبك، بينما الخامسة تقوم بالعزف على الكمان مستدعية صورة الراوي القديمة في رداء حداثي.
تتناوب الممثلات الأربع على لعب جميع الأدوار، فتارة هي الباحثة في أرشيف المستعمر البريطاني الذي كان، وتارة هي المحقق العسكري، وتارة أخرى هي الفلاحة التي تشهد على حادثة الاغتصاب وعلى قتل أبيها أو زوجها في زمن ثورة 1919. ويأتي هذا المشهد الدال في بداية المسرحية ليكثف فكرة العرض وآلية حركة التاريخ التي تمحو قصص البطولات الشعبية في مقابل هيمنة صوت السلطة الأوحد. تتقدم إحدى الباحثات (تؤدي دورها زينب مجدي) وترسم على الأرض بالطباشير شكل ماكيت لواقعة نزلة الشوبك، وتروي كيف قام الفلاحون بقطع البريد ووقف حركة سكة الحديد، أثناء اشتعال الحركة الوطنية ونفي سعد زغلول، فكان رد فعل الإنكليز عنيفاً، إذ أحرقوا القرى وأعدموا واغتصبوا ونهبوا، وكان نصيب نزلة الشوبك قتل 16 وإعدام 5 من الأعيان واغتصاب 12 سيدة. ثم تأتي باحثة أخرى (ريم حجاب) ممسكة بخرقة بالية وتقوم بعملية محو تام للقصة التي خطت بالطباشير، وهو ما حدث على أرض الواقع حيث استخدمت الحركة الوطنية قصص هؤلاء النساء في شعاراتها ومنشوراتها، وكانت جزءاً من الكتاب الأبيض الذي حمله المصريون معهم لصلح باريس، لكن سرعان ما «تم تهميش هذا الحادث في الخطاب السياسي للاستقلال، ولم يمر الكثير من الوقت حتى نسي التاريخ هؤلاء النساء تماماً» كما يرد في مطوية عرض «زج زج».

ينشغل مسرح ما بعد الدراما بحثّ الجمهور على عقد مقارنة بين ما يشاهده وبين واقعه

من خلال هذا المشهد العابر الشديد الدلالة الذي يعكس آلية التسجيل والمحو، يمكن المشاهد استرجاع حركات المقاومة والاحتجاجات الشعبية عبر التاريخ، بل كيف يجري وأد وطمس أي منجز شعبي في طريق التحرر، فتتنوع الطرق لإهالة الغبار عليه من شيطنة رموز الحركة الوطنية، إلى كيل الاتهامات الباطلة لهم، وصولاً إلى التشكيك في شهاداتهم هم صانعي الثورات، مثلما حدث مع النساء صاحبات الدعوى. بعدما تكبدن مذلة التحقيقات المجحفة في محكمة المستعمر، «اعتبرت المحكمة أنّ الأقوال التي أدلى بها الشاهدات المذكورات أعلاه عارية تماماً من الصحة». أليس هذا ما حدث قديماً وما زال يحدث لليوم؟ ألم تجرِ شيطنة صنّاع الثورة المصرية على مدار السنوات الخمس الماضية، ولم يحظ معظمهم بأدنى حقوقهم في المحاكمات ولو كانت محاكمة ظالمة كتلك التي وفرها المستعمر البريطاني؟
حين توجّهنا لمخرجة العرض ليلى سليمان بهذا التساؤل، شرحت لنا ظروف التفكير في عرض «زج زج»: «عندما عثرت على تفاصيل التحقيقات التي جرت حول واقعة نزلة الشوبك، قررت أن أبني العرض المسرحي على هذه التحقيقات كما هي في وثائق أرشيف وزارة الخارجية البريطانية. لم أحذف شيئاً ذا بال، بل قلّصت فقط بعض المقاطع. لم أفكر في المقارنة مع «ثورة 25 يناير» بقدر ما أردت إلقاء الضوء على شجاعة هؤلاء النساء اللواتي قدمن شهادات على اغتصابهن منذ 100 سنة ومقارنتها باليوم، وكسر الصور النمطية والأفكار المسبقة حول وضع نساء القرية بالمقارنة بنساء المدينة وكيف يتم الانحياز دائماً لحركة المقاومة في المدينة عنها في الريف».
وتستطرد قائلة: «لم تشغلني الثورة بقدر ما شغلني ما نعيشه اليوم من قمع وانعدام شفافية وأحوال القضاء، إلى درجة تجعلنا نتحسر على إتاحة الحاكم الإنكليزي حق التحقيق للمواطن في القرن الماضي، بينما لا يحظى مواطن اليوم إلا بالأحكام المعدة سلفاً».
تكمن قوة «زج زج» في المحتوى الشديد الجرأة، وفي الكشف عن المسكوت عنه في التاريخ الرسمي. يتأكد ذلك عبر تمسك ليلى سليمان الشديد بالمادة الوثائقية للتحقيقات في اغتصاب نساء نزلة الشوبك كما هي بدون تغيير أو تحريف في الوثيقة، إلى درجة استرجاعها في العرض باللغة الإنكليزية مصحوبة بترجمة على شاشة أعلى فضاء العرض. لكن في الوقت نفسه قد تكون الرغبة في تقصي الحقيقة – عن طريق المسرح الوثائقي ــ وانعكاس الواقع السياسي الاجتماعي الذي يحدث الآن وهنا، قد طغيا بشكل ما على جماليات الشكل المسرحي، بحيث يندرج أداء الممثلات تحت عنوان «الحكي» أو دور الحكواتي الذي يروي التاريخ. وحين يتقاطع السرد مع بعض الحركات الإيقاعية والتعبير الجسدي عن المعاناة والصراع وعن هول الاغتصاب وفظاعة مصائر هؤلاء النساء، يحدث هذا بمهارة، لكنه يظهر للمتفرج منبت الصلة بما حدث أو كأنه فاصل لقطع الملل، وليس متداخلاً في لغة النص كما هي الحال مع موسيقى الكمان مثلاً.
تمسك سليمان بتحري الدقة واحترام الوثيقة والالتزام بها، جعل التحقيقات تجري باللغة الإنكليزية، فرأينا فلاحات نزلة الشوبك على اختلاف مستوياتهن الاجتماعية يتحدثن الإنكليزية. لا يمكن إلا احترام وجهة نظر المخرجة في اتساقها مع اختياراتها الفنية وتمسكها بشخصية فنية قوية ومتفردة.
أرادت المخرجة أن تحترم الوثيقة كما جاءت بالإنكليزية من دون وسيط أو ترجمة قد تنال من المضمون، وفي الوقت عينه لم ترد أن ينسى الجمهور ولو للحظة أن هذه المعلومات ليست متاحة له في لغته العربية. «فما أسهل أن تقدم مشهداً ميلودرامياً لضحايا الاغتصاب في الماضي كما في الحاضر وتستدر تعاطف الجمهور» كما تفسر ليلى سليمان، لكنها حرصت على الحفاظ على هذه المسافة بين نساء اليوم وهؤلاء النساء منذ 100 عام، «لم أرد أن يكون تأثيراً لحظياً على المشاهد يتخلص منه بمجرد مغادرة قاعة العرض».
وقد يكون هذا ما يفسر اهتمامها بمسرح ما بعد الدراما. ضمن خصائصه العديدة التي خطها الألماني هانز تي ليهمان، يعنى هذا المسرح بمفهوم «التلقي» وآليات تفاعل الجمهور مع العرض. ينشغل مسرح ما بعد الدراما بالتحولات في علاقات العرض في القاعة، وحث الجمهور على عقد مقارنة بين ما يشاهده وبين واقعه. تفادت ليلى سليمان الحل الرومانسي التقليدي الذي يتوحّد فيه المتلقي مع المؤدين ويبلغ حالة التطهر المعروفة. لقد أرادت أن يأتي التأثير في ربط ما حدث بواقعها اليوم مباشرةً: «أردت تأثيراً واعياً يقع في منطقة ما بين العقل والقلب».

-------------------------------------------------
المصدر : الأخبار - العدد ٢٩٦١ 


إرسال تعليق

0 تعليقات

جميع حقوق النشر محفوظة لمجلة الأضواء المسرحية 2016

موقع الفنان والكاتب المسرحي محسن النصار

الاتصال بهيئة التحرير

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

زيارة مجلة الفنون المسرحية على الفيسبوك

زيارة مجلة  الفنون المسرحية على الفيسبوك
مجلة الفنون المسرحية على الفيسبوك

المشاركة على المواقع الأجتماعية

الأخبار المسرحية

الترجمة Translate

المشاركة في المواقع الأجتماعية

من مواضيعنا المتميزة